أحاول أن أتخيل كيف جرت الأمور في غرفة أخبار Buzzfeed يوم العاشر من الجاري خلال الساعات القليلة التي سبقت نشر ما بات يعرف بـ «ملف دونالد ترامب الروسي». أتخيل بن سميث، رئيس التحرير، ذو الأربعين سنة، يترأس اجتماع التحرير. هو الأكبر سناً والوحيد الذي يرتدي سترة رسمية - من دون ربطة عنق- كما يصفه مارك فيشر، في مقالة نشرها في «كولومبيا جورناليسم ريفيو» تحت عنوان «من يهتم بالحقيقة». أتخيل النقاش حماسياً ومحتدماً بين من يعتبرون «المصداقية» أولوية لا تمس، ومن يعطون الأفضلية لما يعتبرونه «شفافية» وسرعة في نقل الخبر. لا بد أن سميث، الصحافي الرصين الذين اجتهد في الصحافة التقليدية على مدى أكثر من عقد والآتي إلى منصبه من شهرة حققها في موقع «بوليتيكو»، أمضى بعض الوقت في ذلك اليوم وهو ينظر من حوله، إلى غرفة الأخبار، وما قد حققه خلال السنوات الأربع الماضية على صعيد نقل «بازفيد» من موقع إعلاني «منعدم المصداقية» إلى «مؤسسة إعلامية مؤثرة ورابحة» وإن كانت تقدم نفسها كـ «نقيض الصحافة التقليدية،» كما يكتب فيشر في تحقيقه. لا بد أنه تساءل لبعض الوقت عن حجم المكاسب التي سيحققها نشر الملف كاملاً بصفحاته الخمسة وثلاثين ومن دون حذف أي تفاصيل، على رغم الاعتراف ليس فقط بعدم إمكان تأكيد المعلومات ولكن أيضاً بوجود بعض الأخطاء فيها. لا بد أنه توقع حجم الخسائر، والانتقادات أيضاً. في رسالة شاركها مع فريقه، قال سميث إن قرار النشر الذي «لم يكن سهلاً» يعكس موقف «بازفيد» ما يعتبره دور المراسل الصحافي في العام ٢٠١٧. «ادعاؤنا أننا نريد أن نكون شفافين مع قرائنا» قال سميث، مضيفاً أن الملف موجود ومتداول إلى حد بعيد في أوساط سياسية وإعلامية واسعة في واشنطن وعلى أعلى المستويات. من حق الجمهور إذاً المعرفة، ومن حقهم أن يقرروا بأنفسهم ما إذا كانت المعلومات الواردة فيه حقيقية أم مزورة. في الرسالة، توقع سميث ان لا يوافق «كثر من أصحاب النوايا الحسنة» على القرار. وهو لم يكن مخطئاً. خلال الساعات الأولى بعد النشر، سارعت كبريات المؤسسات الإعلامية الأميركية والعالمية، من «نيويورك تايمز»، إلى «الغارديان» إلى انتقاد الموقع لاتخاذه القرار بالنشر، علماً أن غالبية المؤسسات الإعلامية حصلت على التقرير وقررت التحفظ عن نشر مضمونه. وكانت مجلة «ماذرجونز» نشرت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي قصة عن الملف الذي أعدته شركة بريطانية مؤسسها عميل سابق للاستخبارات البريطانية تعامل في شكل وثيق مع أجهزة الاستخبارات الأميركية وساعد على كشف قضايا معقدة من بينها قضية الفساد في الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) العام الماضي. كل من «سي أن أن» و «وول ستريت جورنال» لجأ إلى الحل نفسه في الحديث عن الملف الذي أعطيت نسخة منه لكل من الرئيسين المغادر باراك أوباما والمنصّب دونالد ترامب. بعد أيام على القضية، لا يزال قرار «بازفيد» وما إذا كانت قد أخطأت أو أصابت في صلب نقاش حاد حول أصول الصحافة وواجباتها وأولوياتها وأخلاقيتها في زمن تواجه فيه كل أنواع التحديات من تحديات التمويل إلى الأخبار الزائفة إلى الذكاء الاصطناعي. هل أخطأ موقع «بازفيد»؟ أي صحافي ملتزم مبادئ الصحافة الأساسية، لن يجد صعوبة في انتقاد قرار الموقع، خصوصاً ما يتعلق بنشر المعلومات المتعلقة بتفاصيل حياة ترامب الجنسية التي بسبب طبيعتها المثيرة غطت على كل القضايا الأخرى الأكثر أهمية وتأثيراً في حياة الأميركيين، بدءاً من الجهات التي مولت التحقيق من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وصولاً إلى نشاط شركات ترامب في روسيا وعلاقاته مع موسكو. في «الواشنطن بوست» كتبت مارغاريت سوليفان أن «نشر الإشاعات مكان لا يمكن الذهاب إليه» وأن «لا شيء يغير هذا المعيار الأخلاقي». و «النيويورك تايمز» من جهتها قالت: «لسنا في مهنة نشر معلومات لا نستطيع الدفاع عن صحتها». في مقابلة مع موقع «فوكس» قالت كيلي ماكبرايد، نائبة رئيس «معهد بوينتر» إن إدارة «بازفيد» كانت «تخدم نفسها وتخدم مبدأ زيادة عدد المشاركات عبر موقعها»، لكن قرار النشر كان مضراً للصحافة في شكل كبير. حجة ماكبريد أن مبدأ الشفافية يجب ألا يتناقض مع مبدأ المسؤولية، وأن مهمة الصحافة لا تقتصر على كشف المعلومات، والتأكد من مصادرها وصحتها، بل تشمل إضافة التفاصيل التي تضع المعلومات في سياق يسمح للملتقي أن يفهم معانيه. أما «نشر الملف بهذه الصيغة وبهذا التوقيت فيعني أننا على الأغلب لن نعرف أبداً الحقيقة». نقطة أخرى توقفت عندها هي كيف أن ترامب سيسعى إلى استخدام هذا الملف للتشكيك في صدق كل عمل صحافي يتهمه بأي نوع من الارتكابات، وهو ما بدأه فعلاً. يأتي هذا ليضاف إلى مخاوف حقيقية من ملاحقات قانونية قد يلجأ إليها ترامب لقمع الصحافة، بخاصة بعد فتح المجال لذلك وبطريقة غير مسبوقة في التاريخ الأميركي في عهد باراك أوباما. وفي تحقيق نشرته «نيويوركر» تحت عنوان «إذا لاحق ترامب الصحافيين اشكروا أوباما“، يتحدث الكاتب عن تسع قضايا ملاحقات قانونية ضد «تسريبات» صحافية، مقارنة بثلاث قضايا مشابهة على مدى كل الإدارات السابقة، فضلاً عن القضايا المتتالية المتعلقة بتجسس الـ «أف بي آي» على هواتف صحافيين واللجوء إلى ثغرات قانونية قديمة لملاحقة صحافيين وإجبارهم على الإدلاء بشهادات أمام القضاء لكشف مصادرهم. ماذا لو لم ينشر الملف؟ على مستوى الرأي العام، تشير ردود الفعل الأولية إلى خلاف كبير في وجهات النظر، وتقارب بين نسب من يعتقدون أن «بازفيد» أخطأ (٢٢ في المئة بحسب إحصاء أجراه موقع «مورننغ كونسلت») ومن يوافقون على قرار النشر (٢٠ في المئة بحسب الإحصاء نفسه). على الصعيد القانوني، لم يخرق الموقع القوانين، كما أن ليس لدى ترامب مادة كافية لإقامة دعوى قدح وذم بحسب خبراء قانونيين. كما أن قرار الموقع بالنشر محمي قانونياً على أكثر من صعيد، أولاً لأن القضية مهمة وترامب شخصية عامة، وثانياً لأن الموقع اعترف لدى النشر بأن هناك معلومات غير مؤكدة، وثالثاً بسبب المادة ٢٣٠ من قانون آداب الاتصالات التي تعتبر أن إعادة نشر مادة لا يعاقب عليه قانونياً مثل إنتاج هذه المادة، وبالتالي من يمكن مقاضاته في هذه الحالة هي الشركة البريطانية التي أعدت الملف وليس «بازفيد». عشرات المقالات والتحقيقات والإحصاءات لا تزال تتوالى لتضاف إلى نقاش حول مستقبل الصحافة هو محتدم أصلاً منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وثمة كثر يأخذون على «بازفيد» نشر الملف، ولكن ماذا لو لم يُنشر؟ ماذا لو صحت المعلومات أن روسيا فعلاً تزعم استخدام مضمون هذا الملف لابتزاز ترامب؟ كم أسبوعاً أو شهراً كان سيمر قبل أن تشعر وسائل الإعلام التقليدي بأنها صارت قادرة على تأكيد المعلومات؟ ما التأثير في مصداقية الصحافة (ونظرية المؤامرة أيضاً) لو عرفنا بعد سنة أو سنتين أن عشرات الصحافيين كانوا قد اطلعوا على هذا الملف وقرروا عدم نشره؟ ليس هناك أجوبة واضحة وحاسمة في المطلق. تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى مواضيع كثيرة متعلقة بمستقبل الصحافة وتأثير ذلك في المجتمعات الديموقراطية. بن سميث الذي انضم إلى «بازفيد» عام ٢٠١٢ يُحسب له ما حققه على مستوى إدخال ثقافة التحقق من المعلومات قبل نشرها عبر ضم مجموعة صحافيين من ذوي الخبرات في كبريات الوسائل الإعلامية وأكثرها التزاماً. ويٌحسب له أيضاً تدعيم فريق الصحافة الاستقصائية داخل الموقع الذي يديره حالياً مارك سكوفس الذي جاء هو الآخر من تخصص طويل في صحيفة «وول ستريت جورنال». والمؤكد أن بن سميث عندما اتخذ قرار نشر الملف لم يكن يقوم بمغامرة، بل كان ما فعله خياراً.
مشاركة :