صدرت حديثاً عن دار «رؤية» في القاهرة طبعة جديدة من كتاب «الاستشراق... المفاهيم الغربية للشرق»، للمفكر الفسطيني إدوارد سعيد (1935 – 2003) بترجمة المصري محمد عناني. وسبق أن صدرت طبعة عربية من الكتاب نفسه في العام 1978 بترجمة كمال بو ديب. يكشف هذا الكتاب عن تمتع إدوارد سعيد بالمقدرة العلمية المنهجية الفذة في استيعاب ظاهرة الاستشراق وتحليل خطابها بفضل خبرته الأكاديمية التي راكمها كأستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك. وعندما نشر كتابه الأول عن الروائي جوزيف كونراد عام 1966، والذي كان صورة معدلة لأطروحته للدكتوراه، كان يضع قدمه على درج المجد، وأدرك المجتمع الأكاديمي في أميركا وأوروبا أن ناقداً أصيلاً قد ظهر، واستجاب له ذلك المجتمع، فبدأ يمارس الكتابة التي تخاطب غير الأكاديميين إلى جانب الأكاديميين، وبدأ يحظى بالإعجاب، وفازت كتبه بالجوائز، وهو ما أكسب آراءه صدقية، وحقق لها الذيوع وانتشار التأثير، وخصوصاً بعدما عمل واعياً في مطلع السبعينات على تدعيم ركائز المذهب الذي أصبح يرتبط باسمه وهو «النقد الثقافي». وقد مهد هذا الكتاب إلى ما يسميه إدوارد سعيد «نقد ما بعد الاستعمار»، ومن أهم ظواهره قيام أبناء البلدان التي تحررت من الاحتلال بإعادة النظر في التركة الاستعمارية الاستشراقية. وهذا كان أساس مجالات جديدة للدراسات النقدية، إذ انتشرت في بلدان العالم الثالث الدراسات التي تناقش المواقف الثقافية الكامنة في نظرة أبناء هذه البلدان إلى ذواتهم، وهي نظرة دونية، ترجع إلى ما ورثه هؤلاء من التركة الاستعمارية التي ساهم فيها المستشرقون. كما شجع النقد الثقافي –الذي يمثله الاستشراق– على ازدهار نظريات النقد النسوي التي تقوم على إعادة النظر في صورة المرأة، لا في المجتمع فحسب على نحو ما ينادي به دعاة المساواة بين الجنسين، بل في مختلف مجالات النشاط الإنساني. إذ إن الاستعمار ومن ورائه الاستشراق «الكامن»، عمل على ترسيخ الصورة القديمة للمرأة، وذلك بربطها دائماً بالعصور السحيقة، ورفض إمكان التغيير والتطور. كانوا ينظرون إليها على أنها كائن مسلوب الإرادة والفكر، أو كما يقول إدوارد سعيد، كانوا يسلبون الإنسان إنسانيته. ورأى عناني في مقدمته، أن هذا الكتاب ينطوي على بحث في المنهج، ويمثل أسلوب استقراء كتابات المستشرقين للكشف عما يكمن فيها من مواد ثقافية قد تتفاوت من كاتب إلى آخر ومن عصر إلى عصر، ولكنها تتميز بموقف أساسي يرجع إلى ارتباط المعرفة بالسلطة، واعتماد كل منهما على صاحبتها. فالسلطة بشتى أشكالها – السياسية والعسكرية والمالية بل والعلمية – تحدد نوع «المعرفة» واتجاهاتها، كما أن المعرفة لازمة لقيام السلطة واستمرارها. وإدوارد سعيد لا يدين المستشرقين جميعاً، ولكنه يدين تقاليد الاستشراق باعتباره الإطار الفكري والثقافي العام الذي يندر أن يخرج عنه حتى ذوو الأصالة من الأدباء والمفكرين. فقد يتمتع أحد الأدباء بخيال خصب يدفعه دفعاً إلى التحليق في أجواء غير واقعية، استلهاماً لصور جديدة أو لأفكار مثيرة، وما إلى ذلك، فيجد في صورة «الشرق» التي قدمها غيره من الأدباء والباحثين «الزاد» الذي يبحث عنه، فينتفع بهذا الزاد ويضفي عليه المزيد مما يسميه كولريدج «التلوين الخيالي». فإذا قرأ غيره ما كتب ظنَّ أن هذه الكتابة، بسبب «أصالتها» الظاهرة – من الزاوية الأدبية الصرفة – وقوة تأثيرها الفني، تقدم صورة صادقة وأمينة، فإذا تكاثرت أمثال هذه الكتابات أنشأت جواً ومناخاً نفسياً أو فكرياً معيناً لا يملك الباحث العلمي أن ينجو من تأثيره فيه. إذاً، فنحن نرى هنا كيف «عمد» الكاتب الأول عمداً إلى نشدان الغرابة، فتوافر في حالته «الوعي» القائم على العمد وتحقق بذلك جانب الاختيار، بمعنى أنه اختار ما يراه غريباً وعجيباً من دون أن يلزمه شيء، فانتسب واعياً إلى ذلك الجو أو المناخ. ويؤكد سعيد أن الإيحاء بالمواجهة بين عالم عربي كثيراً ما ترسم صورته في إطار عاطفي، وبين عالم غربي يستشعر العرب وجوده في إطار يزيد طابعه العاطفي عن ذلك، قد طمس حقيقة القصد من كتاب «الاستشراق» وهو أن يكون دراسة للبحث النقدي لا تأكيداً للتناقض الراسخ بين هويتين متحاربتين. وإيجاد نظام فكري تحليلي قوي يفرض هيمنته على نظام آخر، هو أن يكون بمثابة الطلقة الأولى في مناظرة قد تدفع القراء والنقاد العرب إلى الاشتباك بعزم وتصميم أقوى مع الاستشراق. ويضيف سعيد: «لقد كان اهتمامي بالاستشراق باعتباره ظاهرة ثقافية مثل ثقافة الإمبريالية التي تحدثت عنها في كتابي «الثقافة والإمبريالية»، وهو تتمة هذا الكتاب الذي صدر عام 1993، نابعاً من اختلاف أشكاله واستحالة التنبوء بمساره، وهما الصفتان اللتان تمنحان كتاباً مثل ماسينيون وبيرتون قوة مدهشة بل وجاذبية. وأما ما حاولتُ الحفاظ عليه في تحليلي للاستشراق فهو قدرته على الجمع بين الاتساق والتناقض، وتأثيره الذي لا يمكن التعبير عنه إلا إذا احتفظ المرء –كاتباً وناقداً– بالحق في إبداء قدر ما من القوة الشعورية، أي الحق في أن ينفعل، ويغضب، ويدهش بل ويبتهج».
مشاركة :