تبدو معركة الباب على أشُدّها، بعد أن حشدت أنقرة مزيداً من قواتها، ووجهت سيلاً من الانتقادات إلى واشنطن والتحالف الدولي ضد «داعش» بسبب عدم تقديم دعم لعملية «درع الفرات» التي تنفذها تركيا في شمال سورية لمنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية. غياب مساندة واشنطن في موقعة الباب دفع تركيا للتلويح بورقة قاعدة «إنجرليك» الجوية التي فتحتها لعمليات التحالف في 22 تموز (يوليو) 2015 بعد أشهر من الجدل، فأطلق المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين مطلع الشهر الجاري تصريحات أكد فيها أن «تركيا لديها الحق في إغلاق قاعدة إنجرليك». وكثفت تركيا انتقاداتها للتحالف، عندما أكد وزير خارجيتها أن أنقرة لم تتلق أي دعم من واشنطن في جهودها لانتزاع مدينة الباب، كما جدد دعوة الولايات المتحدة لقطع علاقاتها مع «قوات سورية الديموقراطية» التي يقودها الأكراد السوريون، والتي تعد أكبر حليف للتحالف في حربه ضد «داعش». سلوك تركيا الخشن بعد رفض التحالف في كانون الأول (ديسمبر) الماضي طلب تركيا تقديم دعم جوي لمساندة «درع الفرات»، والاكتفاء بتقديم دعم رمزي أقرب إلى «استعراض عسكري»، دفع الإدارة الأميركية إلى التحرك سريعاً باتجاه مساندة تركيا. كشفت عن ذلك تصريحات جون دوريان؛ المتحدث العسكري باسم التحالف الدولي، الذي قال: «تم أخيراً، وللمرة الأولى، شن أربع غارات شمال سورية دعماً للعملية العسكرية التي تستهدف استعادة مدينة الباب». حضور تركيا في قلب المعادلة السورية وإقناعها الفصائل السورية المسلحة بحضور مؤتمر آستانة إضافة إلى التنسيق الذي تجسد في إجلاء جماعات المعارضة من حلب، وضمان أنقرة مع موسكو اتفاق وقف إطلاق النار في كل أنحاء سورية بدءاً من 30 كانون الأول الماضي، دفع موسكو إلى تكثيف دعم عملية «درع الفرات» فنفذ الجيش الروسي والجيش التركي في 18 كانون الثاني (يناير) الجاري أول عملية جوية مشتركة لضرب «داعش» في منطقة الباب بموافقة سورية. ولم تكن مساعدة موسكو لتركيا عسكرياً في الباب هي الأولى، فقد قصف سلاح الجو الروسي أهدافاً لتنظيم «داعش» جنوب مدينة الباب السورية في 28 و 29 كانون الأول الماضي. وتمثل السيطرة على مدينة الباب أهمية خاصة لتركيا، إذ تقطع الطريق بين منطقة عفرين ذات الغالبية الكردية عن مدينة منبج، حتى تضمن قطع الصلة نهائياً بين مناطق سيطرة الأكراد في شمال سورية، وبالتالي تمنع قيام كيان كردي فيديرالي على حدودها الجنوبية. وترتبط الأهمية الثانية لمدينة الباب أنها تمثل عمقاً جغرافياً مهماً لاستكمال إنشاء منطقة آمنة على مساحة 5 آلاف كيلو متر مربع وبعمق 45 كيلو متراً مربعاً لتوطين اللاجئين السوريين. وتستقبل أنقرة نحو 3 ملايين لاجئ سوري، بعضهم بات يمثل قوة دفع في الاقتصاد التركي من خلال قوة الإنفاق الاستثماري إضافة إلى تنامي الاستثمارات السورية المنقولة من دمشق إلى أنقرة، فهي تمثل 22.3 في المئة من الاستثمارات الأجنبية في تركيا. خلف ما سبق فإن السيطرة على مدينة الباب تعني عملياً إنهاء آخر معاقل تنظيم «داعش» في ريف حلب الشرقي، وتحمل مدينة الباب أهمية خاصة للتنظيم، حيث معسكرات التدريب فضلاً عن كونها النقطة الواصلة بين مناطق نفوذ التنظيم في الرقة ودير الزور في سورية، ومناطق نفوذه في الموصل. في جانب رابع، يضع حسم معركة الباب تركيا في صدارة الترتيبات الأمنية والسياسية على الأرض السورية، لاسيما أن الوصول إلى الباب يجعل قوات درع الفرات على مقربة من الرقة التي تتوجه الأنظار إلى معركتها بعد انتهاء معركة حلب التي استعرضت فيها موسكو عضلاتها على أنقاض جثث الأبرياء والمدنيين. كما أن الاستحواذ على الباب يفتح الطريق أمام مدينة منبج حيث الأكراد. غير أن الدعم اللوجيستي والعسكري الذي قدمته واشنطن وموسكو أخيراً لتركيا في معركة الباب، وحديث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن خلال كلمة له في مدينة أزمير في 25 كانون الأول الماضي أثناء مراسم افتتاح ميناء للغاز الطبيعي، عن أن المعركة الدائرة لانتزاع السيطرة على الباب «اقتربت من نهايتها»، لا تعني أن تركيا أوشكت على حسم موقعة الباب أو تحقيق أهدافها في سورية، إذ إن «داعش» ما زال يبدي مقاومة شرسة فضلاً عن أن خدمات موسكو والتحالف الدولي في الباب لم تغير كثيراً من ملامح المعركة على الأرض. والأرجح أن ثمة قلقاً تركياً لا تخطئه عين من إطالة الحسم في مدينة الباب كشفته مؤشرات عدة من بينها تزايد حدة الاشتباكات بين قوات الجيش الحر وعناصر «داعش» حول الباب، الأمر الذي دفع الجيش التركي إلى الإعلان في كانون الثاني الجاري عن عملية عسكرية سيقودها الجنود الأتراك بأنفسهم لتحرير الباب من تنظيم «داعش»، وسيكون دور الجيش السوري الحر عبارة عن داعم ومساند للقوات التركية ضمن العملية العسكرية. ويتوقع مشاركة نحو 8 آلاف جندي تركي، كما تم إنشاء 3 مقرات عسكرية في المنطقة لدعم العملية المنتظرة التي تعتبر جزءاً من عملية «درع الفرات». كما باتت تركيا أكثر قلقاً مع توالي الخسائر البشرية، وكان بارزاً، هنا، قيام تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بحرق جنديين تركيين تم اختطافهما قبل شهر، وبث «داعش» مقطع فيديو يصور عملية الحرق، الأمر الذي أثار غضب الأتراك، ودفع الحكومة إلى حجب الوصول إلى شريط الفيديو من خلال منع الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي. في المقابل، تشعر أنقرة بعدم ثقة تجاه سلوك واشنطن، لاسيما في ظل استمرار دعم الكيانات الكردية، وتصاعد الحديث عن قانون يسمح لوزارة الدفاع الأميركية بتدريب قوات سورية الديموقراطية وتسليحها. ووصل الخلاف بين أنقرة وواشنطن مبلغاً، بعد تحفظ أنقرة عن موازنة وزارة الدفاع الأميركية «البنتاغون» لعام 2017 التي صادق عليها الرئيس باراك أوباما في 24 كانون الأول الماضي، وبلغت 619 بليون دولار، متضمنة موازنة حرب بقيمة 67 بليون دولار، لاستخدامها في عمليات ما وراء البحار، وتتضمن بنود الموازنة بنداً يسمح بتزويد المعارضة السورية صواريخ مضادة للطيران محمولة على الكتف بعد تحقيق شروط معينة، والأمر الذي أثار قلق أنقرة خوفاً من إمكانية توسيع نطاق المعارضة السورية ليشمل مستقبلاً حزب الاتحاد الديموقراطي وميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية، وهي التي تعتمد عليها واشنطن الآن في عملية تحرير الرقة وسط تحييد تركي. القصد أن تطورات معركة الباب على الأرض، وإصرار أنقرة على حسمها لدرجة التهديد بإغلاق قاعدة إنجرليك التي يشرف عليها «الناتو»، أدت بواشنطن إلى إعادة النظر في دعمها عملية «درع الفرات» ناهيك عن تقديم موسكو دعماً جوياً في شكل مكثف في مدينة الباب، وهي مكاسب نوعية قد تعوض قليلاً خسائر تركيا مع محيطها الإقليمي والدولي. * كاتب مصري
مشاركة :