مارك ديغرانشان فنان التلاشي المربك والخارج عن المألوف مارك ديغرانشان من الفنانين الفرنسيين المعاصرين القلائل الذين تجاوزوا الحدود، وسجلوا حضورهم في الساحة العالمية، بفضل أعمال قيّمة تتميز بشخصيات تبدو منطبعة على القماشة، وبزرقة ألوان طاغية تكيف الفضاء خارج حدود اللوحة، وعالم غامض ينطوي على مناظر كبرى يبدو فيها الزمن معلّقا، كل ذلك يكتشفه زائر المعرض الذي يقام له في رواق لولون بباريس بعنوان بالأمس فجأة. العربأبو بكر العيادي [نُشرفي2017/01/30، العدد: 10528، ص(16)] صور متخلصة من الزمان والمكان يعمل مارك ديغرانشان (وهو من مواليد 1960) ويعيش في مدينة ليون منذ تخرجه من مدرسة الفنون الجميلة بباريس، واستطاع هذا الفنان الفرنسي الذي يقام له حاليا معرض بعنوان “بالأمس فجأة” في رواق “لولون” الباريسي منذ بدايته في مطلع الثمانينات أن يبتكر أسلوبا متفردا جلب له احترام هواة الفن ونقاده داخل فرنسا وخارجها. استوحى أعماله الأولى من تاريخ الفن وبعض أعلامه مثل نيكولا بوسان وكازيمير ماليفيتش، ثم تحرر منهم شيئا فشيئا لينهل من مصادر أخرى كأفلام أنطونيوني وفِلّيني، أو الصور الشمسية سواء منها المقتطعة من المجلات، أو المأخوذة من الإنترنت، أو التي يلتقطها بنفسه في غفلة من الناس، فيركّبها ويخلط عناصرها في مشاهد ملغزة، ثم يصهرها داخل اللوحة ليخلق صورة فورية متخلصة من أي ظرف وأي مكان. وبمرور الزمن، صار فنه مربكا، فمن ناحية هو فن تصويري ما دمنا نجد فيه أجسادا ومناظر، ولكنه من ناحية أخرى ليس مطابقا للطبيعة، إذ تشوبه عدة عناصر غير سويّة، تؤثر في الفضاء، لكون الأفق المنظوري إما محرفا وإما مقطوعا، ولكون الأجساد والأشجار والجدران مشرومة أو مهشمة أو معدومة السُّمك والماهية، علاوة على مثلثات وهالات غريبة ذات ألوان فاقعة تحيط الشخصيات أو تغطيها، وظلال وبقع سوداء حيث لا ينبغي أن تكون. نقف في لوحاته أيضا على خطوط بيضاء رفيعة تعبر المساحة، وتوحي للناظر بأنه لا يشاهد لوحة فنية، بل كأسا بصدد التهشّم، وعبثا نبحث في لوحاته عن سردية أو رمزية، فرامية القوس مثلا تصوّب نحو الفراغ، والمارة يتبخرون ويتحولون من كتل جسدية إلى أبخرة متلاشية. اختار مارك ديغرانشان لوحات ذات أحجام كبيرة (متران على متر ونصف المتر في الغالب) بعضها ثنائي وبعضها الآخر ثلاثيّ، أما ذات الأحجام الصغرى فهي عبارة عن تعديل أو تلخيص للوحاته الكبرى. مارك ديغرانشان يمزج في لوحاته بشكل صائب بين العادي والعجيب، بين البسيط المبتذل والخارج عن المألوف تتبدى المشاهد فيها على شكل طبقات، وفضاءات مقسّمة بالطول، تتمدد في صحارى تسدّها قمم هضاب أو أفق بحري، فضاءات تبدو منسابة صافية، لا شيء فيها يستوقف النظر عدا بعض صور آدمية، هي نفسها دائما، تتكرر من لوحة إلى أخرى. أطياف فتيات، أجساد نسوة من خلف أو من جانب في الغالب، وفي مواقف عادية، فهنّ واقفات وأيديهن على خاصراتهن، أو ملتصقات بالأرض حتى وهن يجرين، والمفارقة أنهن حاضرات بتلك الهيئة أكثر من حضورهن بملامحهن، لأننا لا نتبيّن الوجوه أبدا في لوحات ديغرانشان. فالشخصيات تبدو وكأنها تتأمل البانوراما، كماء بحيرة، أو خطوط صخرة، أو تعرجات جبال بعيدة، أو قطع أثرية في حقل حفريات، بل إن ثمة شابّا في تبان سباحة، يقف عند شرفة مثل تمثال يوناني قديم على منصة، ولكن وجهه لا يرى، وإن بدا أنه ينظر إلى الفساتين الخفيفة ومايوهات السباحة والأوشحة و”السمارتفون” كإشارة إلى العالم المعاصر الذي تندرج داخله تلك “الكائنات”. قد نجد في ذلك بعض تفسير، ولكن ماذا تفعل في المشهد نفسه تلك الخيول التي تهتاج وتتشظى، وتلك الأغصان السوداء التي تتموج وتتقاطع وتلك الخدوش والحزوز وتلك البقايا الأركيولوجية؟ وما معنى تلك الصور التي تتجاوز عتبة الشعور، المتطابقة في تدرج ألوان مترابط، وتلك العناصر التي لا يبدو أن ثمة معنى يصلها بعضها ببعض؟ فإلى ماذا ينظر بالضبط؟ صور النساء المنحوتة، الضخمة الحجم، الجريئة، لا تنبئ بشيء، حسبها أنها هناك، وضعت بشكل بارز كأنها ملصقة في مشهد أشبه بديكور مسرحي، وفي هذا تذكر بأعمال سلفادور دالي الأولى بشواطئها الزرقاء الشاسعة، تلك الشواطئ الصخرية السريالية، أو ببعض المناخات الميتافيزيقية لِدي كيريكو. ما يلفت الانتباه حقّا في لوحات مارك ديغرانشان هو المزج الصائب بين العادي والعجيب، بين البسيط المبتذل والخارج عن المألوف، مزجا لا ينفك الفنان يزن مقاديره إلى أن ينتأ بين الحلم والواقع توزان بديع. فديغرانشان في الحقيقة يتمثل تلك اللحظات التي تتصادم فيها الذكريات الشخصية مع صور المواقع السياحية ومشاهد أفلام، وبقايا صور متأتية من مناحي الذاكرة، فيخلطها مع صور أخرى منتقاة من تاريخ الفن الضخم، ويضفي عليها من ذاته كي تنطق بحساسيته الفنية، أي أننا في النهاية إزاء فن تشكيلي يترعرع في عالم مصنوع عن طريق التجميع، والتشويش البصري، والتذكر. نجد ذلك حتى في التقنيات أو الجزئيات التصويرية التي تحيل على شيء سابق، مثل البقع السوداء التي نجدها منبسطة في لوحات مونك، والمناخات الجبلية المزرورقة في أعمال هولدر، والأغصان الدكناء العارية التي تتبدى في مقدمات بعض لوحات بَلْتوس، والخيول العتيقة لدي كيريكو، كما نستشعر ولعه بالسينما وهوسه بالزمن المعلّق، زمن الكُمون الجامد الصامت، وكأنه يدعو كل مشاهد، أمام عالم الحلم ذاك، الخالي من خطوط الهروب، إلى أن يصنع فيلمه بنفسه. :: اقرأ أيضاً الفن قادر على بناء الأوطان واقتحام جماليات التراجيديا ثائر يساري يتحول إلى رحالة متصوف تياترو ثرفنطيس رواية مغربية مسرحها طنجة كوميديا لبنانية سوداء عن حياة المرأة الحامل
مشاركة :