من خصائصنا النفسية أننا قادرون على تحمل الضراء، بل قادرون على تبريرها متى تم تغليفها بغلاف ديني، حتى ولو كان الغلاف مجرد غلاف بلا مضمون. العربسعيد ناشيد [نُشرفي2017/01/30، العدد: 10528، ص(9)] ظاهرتان مستغربتان رصدتهما بمناسبة الانتخابات التشريعية الماضية في المغرب: أولا، الكثير من الناس أبدوا تذمرهم وسخطهم من تجربة حزب العدالة والتنمية في التسيير الحكومي، لكنهم في ساعة الحسم أعادوا التصويت على نفس التجربة بلا خجل ولا وجل. وأظنّ أن أكثرهم اليوم مستعدّ لإعادة نفس الفعل فيما لو أعيدت الانتخابات. ثانيا، كثيرون ممن صـوتوا لحـزب العدالة والتنمية مازالوا يتوقعون مستقبلا مشرقا ومزهرا في ظل حكومة عبدالإله بن كيران، وأما اشتداد الأزمة فلعله من باب “عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم”، وإن مع العسر يسرا، وما إلى ذلك من تبريرات فقهية. وحـين تسألهم عـن المؤشرات الواقعية، لا تجد عندهم ولو رُبع مؤشر واحد، إن هي إلاّ أمانيهم في أحسن الأحوال. بل المستغرب أنّك قد تجد لديهم معطيات عكسية تؤكد بالأرقام أننا نتجه على الأرجح نحو انهيار اقتصادي وثقافي شامل مقرون بالأخونة الشاملة، لكنهم ساعة الحسم مستعدون للالتفاف على معطياتهم بالذات، ومعاندتها بكل تنطّع. إنهم يمثلون في كل أحوالهم كتلة انتخابية صلبة، قد تزداد وتتمدد قليلا، لكنها لا تنقص ولا تتقلص إطلاقا. بالمناسبة، ولعل الأمر متعلق هنا بمثال آخر، أعرف أشخاصا سوريين لم يجدوا ما يفعلونه في تركيا سوى التسكع بلا وثائق ولا كرامة ولا أوراق، ثم ركبوا البحر وخاطروا للهجرة إلى أوروبا حيث حصلوا على عمل ووثائق، لكنهم لا يكفون إلى الآن عن الدفاع عن رجب طيب أردوغان لأنه الحاكم “المسلم” الذي “فتح” أمامهم (وما أدراك ما الفتح) أبواب أوروبا. فكيف يتسنى للإنسان العاقل أن يدافع عن واقع لا يخدم مصلحته، ولا يخدم مصلحة عموم الناس؟ لننتبه إلى القاعدة التالية، يحتاج فهم غير المفهوم إلى مفاهيم ملائمة. لأجل ذلك، لا بأس بأن نرفع السقف النظري قليلا. يرى جيل دولوز وفليكس غاتاري في مؤلفهما المشترك، “ما الفلسفة؟” أنّ دور الفلسفة في آخـر التحليل هـو إنتـاج المفاهيم، أو بالأحرى صناعة المفاهيم، مثلما كان يردد دولوز في العديد من محاضراته ودروسه. إذا كان الأمر كذلك، فلعل مفهوم الاستلاب من بين أهم المفاهيم التي أنتجها كارل ماركس نظريا، بعد أن كان المصطلح قد استعمله روسو وهيغل وفيورباخ بدلالات مختلفة. لكن مشكلتنا أمام ماركس بالذات أن معظم المتعلمين المسلمين لا يزالون يعتبرونه رمزا “للشر الفلسفي”، رغم أن المعسكر الشيوعي أمحى أثره وانتهى ذكره، والرّجل الملعون في “دار الإسلام” لم ينتقد الإسلام يوما، ولا انتقد نبيّ المسلمين، ولم يهتم بنقد عقائد المسلمين أو حضارتهم؛ فقد كان مشغولا بمصائر الحضارة المعاصرة أوّلا، وكانت له حسابات مع الغرب إجمالا، ومع الغرب الرّأسمالي تحديدا. كان الرّجل، شأنه في ذلك شأن سائر الفلاسفة، ناقدا كبيرا للحضارة التي ينتمي إليها. ولا يليق بنا أن ننكر فضل روحه الفكرية في تحقيق العديد من المكتسبات الاجتماعية: الحد الأعلى لساعات العمل، الحد الأدنى للأجور، الحق في الانتماء النقابي، التغطية الصحية، وإلى غير ذلك من الحقوق التي تنعم بها معظم شعوب الأرض. عموما، فإن نقد الذات للذات هو الدرس الفلسفي الغائب عنا؛ لأنّ الكثيرين عندنا يكتفون بترديد نقد الغرب لذاته مقابل تفادي المطلوب، والمطلوب من وجهة نظر التفكير الفلسفي هو نقد الذات أوّلا بما يساهم في إيقاظها واستنهاضها، والباقي تفاصيل. لكن، ليس هذا هو سوء التفاهم الوحيد. لقد كانت شيطنة ماركس من طرف المتعلمين المسلمين ضربا من ضروب الاستلاب الذي بلوره ماركس نفسه كمفهوم، طالما أن نتائج شيطنة ماركس لم تكن في صالح الشعوب التي عانت من ويلات الاستعمار الرّأسمالي، ومن ضمنها شعوبنا بالذات. قلت، يعدّ مفهوم الاستلاب من بين المفاهيم التي نحتها ماركس، بل لعله المفهوم الأكثر أهمية قصد فهم تقلبات الوعي السياسي لدى الشعوب، لا سيما في وقت أصبحت فيه الشعوب تنحو نحو امتلاك مصائرها، أو هكذا يفترض. إن العائق الأكبر أمام تلك الصيرورة هو الاستلاب. وبلا شك، سنحتاج إلى هذا المفهوم لتوصيف حالات اغتراب الوعي الجماعي عن الواقع الاجتماعي، والذي يدفع المواطن إلى التصرّف ضد مصلحته. الاستلاب هو الوعي الزائف، وهو ما يفسر لنا كيف يصوت العديد من الفقراء والمعوزين على برامج حزبية ضد الرعاية الاجتماعية؟ وكيف تصوت العديد من النساء على برامج حزبية ضد المساواة؟. فالأمر هنا لا يتعلق بمجرد جهل، بما يعنيه الجهل من غياب للمعطيات وانعدام المعرفة، وإنما يتعلق الأمر تحديدا، بهشاشة الوعي الفردي أمام اللاّوعي الجمعي. هنا نكون قد امتلكنا بعض المفاتيح لفهم ظاهرة الاستلاب عند شعوبنا: إن أي شخص يقدم وعدا، ولو صوريا، بإعادة المجد إلى هذا الدين الواهن، فسيكون قد وجه انتباهنا إلى المكان الحساس والجرح المؤلم، حتى يغنم هو بالأهم، وسيحظى لا محالة بـ“البيعة” في السراء والضراء. وما علينا إلا أن نضع سطرا عريضا تحت كلمة الضراء؛ فإنها تفسّر كل شيء. إن لاوعينا الجمعي لمجبول على البيعة على أساس المظهر الديني كتعويض عن هشاشة الموروث الديني. لعبة استفاد منها بعض الحكام عقودا طويلة، ويستفيد منها العديد من القادة والزعماء والخطباء لعقود أخرى، لكنها لعبة خطرة بكل المقاييس، طالما أن المظهر الديني مفتوح على مزايدات لا آخر لها سوى الفتنة. عموما، من خصائصنا النفسية أننا قادرون على تحمّل الضراء، بل قادرون على تبريرها بنحو مذهل متى تم تغليفها بغلاف ديني، حتى ولو كان الغلاف مجرّد غلاف بلا مضمون. والأهم في الأخير، هو توفّر النيات بمعناها الديني، بصرف النظر عن النتائج بمعناها الاجتماعي. الاستلاب معناه أن يدافع الناس عن مواقف من الواضح أنها ضدّ مصالحهم. الاستلاب هو المظهر الأبرز لانعدام قدرة العقل على القيام بإحدى أهم وظائفه السياسية: التمييز بين المنفعة والمضرّة. إنه مظهر من مظاهر تعطيل العقل وشل قدرته على الاختيار في زمن موسوم بحق المـواطنين في تحديد مصائرهم كما يُفترض. لذلك، يمثل الاستلاب خطـرا على الديمقـراطية نفسها. أي نعم، وظيفة العقل أن يساعدنا في تمييز الخطأ عن الصواب (هذا في حقل المعرفة)، وظيفته أيضا أن يساعدنا في تمييز الصدق عن الكذب (هذا في حقل القيم)، ووظيفته كذلك في أن يساعدنا على تمييز المنفعة عن المضرة (هذا في حقل السياسة). لهذا السبب كان أفلاطون يعتبر السياسة وظيفة النفس العاقلة، بمعنى العقل، بلغة اليوم. كاتب مغربي سعيد ناشيد :: مقالات أخرى لـ سعيد ناشيد طبائع الاستبداد: العقل المجبول على البيعة, 2017/01/30 هل خسر الأصوليون معركة البرقع في المغرب؟ , 2017/01/23 الانتصار على الإرهاب ليس وشيكا, 2017/01/20 اليسار الذي يشتاق إلى معذبه, 2017/01/16 انهيار الوعي السياسي يؤول إلى صعود غرائز العنف الطائفي, 2017/01/09 أرشيف الكاتب
مشاركة :