في المدارس والمجتمعات ووسائل الإعلام، يدعو الفيلسوف والكاتب الفرنسي عبدالنور بيدار إلى رفع مستوى الذكاء في العلاقات البشرية، بغضّ النظر عن اختلاف المعتقدات والقناعات بين الناس. مقابلة مع شخص روحاني وعلماني في آن... مجلة «بسيكولوجي» الفرنسية قابلت بيدار وعادت بالأجوبة التالية: تتعدّد ألقابك. كيف تُعرّف عن نفسك؟ أُعَرّف عن نفسي بوظيفتي الأساسية، المفتش العام للتربية الوطنية في فرنسا، ما يعني أني مسؤول عن تعليم العلمانية والقيم. تقضي مهمّتي بإيجاد وسائل تحثّ الطلاب على طرح الأسئلة بنفسهم. لا يمكن أن نعطيهم اليوم حصة أخلاقية تقليدية. لذا تشكّل الفلسفة أداة مثالية في هذا المجال كونها تتجنّب الحقائق الجاهزة وتُشجّع على اتخاذ مواقف شخصية: «ما رأيي أنا بما أسمعه هنا وهناك وبما أتعلّمه؟». هذا المبدأ جدير بالثناء لكن هل يعطي النتائج المنشودة؟ أشهد على فاعليته! في السنة الماضية، وضعتُ برنامجاً مؤلفاً من منتديات. طلب الأساتذة من الأولاد أن يفكروا بمواضيع وأسئلة على الشكل التالي: «كيف يمكن أن نعيش معاً إذا كنا لا نتقاسم القناعات أو المعتقدات نفسها في ما يخص معنى الحياة؟»، ثم نظّموا نقاشاً بحضور مشاركين خارجيين وكنت واحداً منهم. في الفترة الأخيرة، ذهبتُ للمشاركة في منتدى في «جونفيلييه» مع طلاب من المرحلة الثانوية. تكلّمنا طوال ثلاث ساعات. كانت التجربة مشوّقة جداً. في النهاية، اعترف لي الأساتذة بأنهم كلّفوني بأصعب الصفوف لديهم. نعيش في مجتمعات صعبة جداً لم تعد تجد أي قواسم مشتركة بين الناس. حالما نخصّص مساحة للنقاش حول مسائل يومية أساسية، سنجد واحة من المشاركة وسط صحراء الوحدة السائدة. حين اقترحت عليّ الطبيبة النفسية إيناس ويبر هذا المشروع، شعرتُ بأننا نستطيع تخصيص مساحة روحية من نوع جديد، بمعنى ألا تكون طائفية أو علمية، بل يتبادل فيها أشخاص من الآفاق كافة الآراء حول مواضيع أساسية تتداخل فيها الأفكار الروحية والفلسفية والدينية، من الشرق والغرب. لكني لم أكن أتوقّع هذه الظاهرة العابرة للأجيال! أي جمهور تستهدف؟ أستهدف بشكل أساسي الفئة العمرية بين 22 و35 عاماً، وهي تتضمّن الأشخاص الذين يحاولون التكيّف مع معايير الحياة الاجتماعية «النموذجية» كافة، لكنهم يظنون أن هذه المحاولات لا تكفي لإعطاء معنى لحياتهم بل يشعرون بنقص معيّن ويتوقعون أن تذهب جهودهم لعيش حياة مثالية سدىً إذا لم يتصالحوا مع نفسهم أولاً. هؤلاء ليسوا متمردين لكنهم لا يريدون أن يعيشوا حياة مبنية على معايير مادية فحسب، بل يحتاجون إلى إيجاد معنى لحياتهم ومشاركته مع الآخرين. مبدأ الأخوّة يمكن اختصار مشاريعك المتعددة بفكرة «الأخوّة» التي خصّصتَ لها كتاباً في عام 2015 وأسبوعاً كاملاً في شهر نوفمبر الماضي. كيف يمكن أن نقرر تبنّي مبدأ الأخوّة؟ مررتُ بلحظات استنارة متعددة. بدأت اللحظة الأولى في طفولتي، حين أدركتُ أن ديني وهو الإسلام ليس مفهوماً تلقائياً لأن والدتي مفكّرة كاثوليكية اعتنقت الإسلام. ماذا عن والدك؟ لم أتعرّف إلى والدي الحقيقي لكنّ والدي بالتبني مغربي وكان ينتمي إلى شكل آخر من الإسلام المتمثّل بحركة «جماعة التبليغ» العقائدية. لا علاقة لهذه الديانة بإسلام والدتي العميق والواضح. كانت تجعلني أغوص في أهمّ الأفكار الصوفية وتعلّمني الآيات خلال أعمال التنظيف... أعتبر جدّي أيضاً شخصية أبوية أساسية بالنسبة إلي: كان شيوعياً ملحداً. تخيّلوني وسط هؤلاء الأشخاص الذين أحبهم ويحبونني لكن لم تكن أفكارهم متشابهة بأي شكل. لذا منذ مرحلة مبكرة، أصبحت الفلسفة ضرورة في حياتي. كان يمكن أن تصبح ملحداً مثل جدّك. لماذا اخترتَ الصوفية؟ حين عرّفتني والدتي في مرحلة مبكرة إلى نظرتها إلى الإسلام، اكتشفتُ في داخلي جانباً صوفياً. كنتُ أجد نفسي في أفضل حالاتي على سجادة الصلاة في صغري. ولم أترك ممارساتي الصوفية منذ ذلك الحين. أعيش هذا اللقاء مع نفسي وأمارس التأمل الداخلي يومياً. لكنك ترفض أن تعتبر نفسك شخصاً متديّناً... لا أجد نفسي في هذه الكلمة. لا أعيش حياةً دينية بل روحية وأعتبرها اختباراً لحقيقة معقدة أعجز عن تسميتها، وربما أمضي حياتي كلها وأنا أحاول توضيحها أو التعبير عنها من الداخل إلى الخارج. مصالحة وسياسة هل تلتقي الفلسفة والروحانية في هذه النقطة لديك؟ نعم. أعتبر ممارستي الفلسفية وتأمّلي اليومي تمرينَين فاعلَين لتوضيح ما يحصل في داخلي، ضمن التجربة الروحية التي أعيشها. أحتاج إلى الفلسفة لأنها تضمن مشاركة الوعي والمنطق في اكتشاف لغز الوجود. لكن يبقى مصدري الأساسي روحياً: أشعر بأنني مسؤول عن ترجمة كل ما أكتشفه في ذلك العالم إلى كلمات وأفعال. لهذا السبب اخترتَ أن تدخل المجال الاجتماعي السياسي؟ نعم... عشتُ استنارة جديدة في حياتي حين كنتُ أقيم في عمق إقليم «كوريز». كنت أبلغ 30 عاماً حينها. حصل ذلك في عام 2001. مع انهيار مركز التجارة العالمي، اتخذ الإسلام صفة «الشر المطلق». سمعتُ بسرعة كل ما قيل عن العالم الإسلامي. ولما كنتُ أستاذ فلسفة وأنتمي إلى هذه الثقافة المزدوجة، أردتُ أن أشارك في مشروع لمصالحة الإسلام والغرب. تعتبره «مشروعاً»؟ هل تظن أن هذه المصالحة لن تحصل بشكل تلقائي إذاً؟ نعم. لا بد من بذل الجهود وحصول مواجهات... لكنها مسائل أساسية بالنسبة إلى أي فيلسوف. وسيحصل الجميع على فرصة التكلم عن القواسم المشتركة على المستوى العالمي، مثل مفهوم الإنسان وكرامته والكيان الكامن في أعماقه ودوره في هذا الكون باعتباره ضمير العالم. تظنّ أن إعادة تأهيل الجميع ممكنة عن طريق المعرفة. لكن جرّب آخرون هذه الطريقة على مر قرون من الفلسفة ولم يحققوا نجاحاً كبيراً... ما العمل حين لا يتغير الوضع؟ هل يجب أن نغرق في اليأس والتشاؤم؟ لا أتحمّل هذا الوضع! إذا لم يظهر بعض المثاليين الساذجين الذين يسعون إلى رفع أصواتهم على مر الأجيال، فلن يتغير الوضع طبعاً. هل تعتبر نفسك إذاً شخصاً مثالياً ساذجاً؟ يمكن أن أعتبر نفسي كذلك من باب السخرية من الذات لأنني أسمع هذه الملاحظة كثيراً لكنها لا تزعجني. أميل إلى المثالية طبعاً وأتمنى أن أرتكب أخطاء الشباب في عمر التسعين! لكن ربما يجب أن نتساءل عن نزعة مجتمعاتنا إلى حبس نفسها في علوم إنسانية تشاؤمية. دفعنا أسياد الشك والانتقاد، نيتشه وفرويد وديريدا وفوكو، إلى اعتبار الإنسان متكلفاً وساخراً وغامضاً. لكن ألم يحن الوقت لإعادة بناء صورة جميلة وعامة عن الإنسان؟ نعيش في مجتمع ممزّق تكثر فيه مظاهر اللامساواة والظلم: يجب أن نتحرك جماعياً! أعتبر التزامي روحياً وسياسياً: من جهة أريد أن يعمل الإنسان على تطوير نفسه عبر إقامة حوار بين أشخاص متساوين. ومن جهة أخرى، يجب أن ندرك أهمية تغيير المجتمع. يجب أن نغيّر نفسنا ونتعاون للغوص في عمق إنسانيتنا ونغيّر العالم معاً انطلاقاً من الكنوز والطاقات التي تنبع من القلب. أنت مطّلع على الأوضاع السياسية: هل تظنّ أن هذه التغيرات ممكنة؟ أؤمن بحصول انقلاب ديمقراطي بدل اندلاع ثورة للديمقراطية. بدل أن نسأل السياسيين عما سيقدّمونه لنا، يجب أن نسألهم: «أي وسائل ستعطوننا كي نتصرّف؟». لا بد من إبرام عقد جديد بين المسؤولين المُنتخَبين والشعب كي نخرج من هذه العلاقة الطفولية التي نشأت منذ فترة طويلة جداً. الديمقراطية المثالية حول الديمقراطية المثالية يقول عبد النور بيدار: «إنها الديمقراطية التي تصل إلى أعلى مستويات اللامركزية. اقتصرت لامركزية السلطات على الأشخاص المُنتخَبين من الجماعات المحلية وعلى الفئات النافذة. تقضي اللامركزية الحقيقية بإنشاء جماعات من المواطنين حيث يستطيع الناس اتخاذ القرارات». لكن هذه العملية، كما يقول، تحتاج إلى الوقت وتتطلب إعادة النظر في العلاقة التي تربطنا بالعمل. يتابع: «تقول الفيلسوفة هانا أرندت إن خطيئة مجتمعاتنا تتعلق بتحويل الإنسان إلى «حيوان كادح»: نحن نعمل ونجتهد لدفع الضرائب والمصاريف بكل بساطة. من خلال تقاسم مهام العمل بطريقة مختلفة، يمكن أن نجد الوقت للمشاركة في «نشاط عام» والتركيز على الثقافة: لا تقتصر هذه العملية على زيارة المتاحف بل يجب أن نلتزم بالعمل على الذات، جسدياً وروحياً». يبدو كلام عبد النور برنامجاً سياسياً جاذباً، ولكنه، كما يذكر، يرفض أن يصبح مجرّد رجل مُنتخَب إضافي، ويؤكد: «لكني أنوي مع أشخاص آخرين إطلاق هذه الدعوة بأعلى صوت. هذا هو مشروعي الجديد!».
مشاركة :