في الطريق إلى ملعب «أولد ترافورد»

  • 1/31/2017
  • 00:00
  • 21
  • 0
  • 0
news-picture

هو عادة لا يستيقظ باكراً، لكنه مضطر هذا الصباح لأن يودّع ولديه قبل ذهابهما إلى المدرسة، ويقبّلهما ويعانقهما كثيراً وطويلاً. هذا الصباح عليه توضيب حقيبته وحزم ملابس البرد القارس والتوجه الى العمل ومنه الى المطار، حيث ينتظره طائر ضخم سيحمله الى لندن. حلم صغير يتحقق. والحلم بالنسبة الى كثيرين قد يبدو عادياً، لكنه بالنسبة اليه وإلى مجموعة من أصدقائه هو حلم حقيقي، أن تشاهد مباراة كرة قدم في «مسرح الأحلام» في ملعب أولد ترافورد. حلم قد لا يعني مثلاً أباه الذي لا يحب الرياضة ويعتقد أنها مضيعة للوقت، لكن هذا الحلم بالنسبة الى سمير وهاني ومروان وخالد وعلي وسامي ونافع ومحمد وزياد، حقيقي: أن تجلس في ملعب يتسع لحوالى 75 ألف شخص وتهتف باسم فريقك المفضل، وترى لاعبين على مقربة منك لطالما شاهدتهم على شاشة التلفزيون. في الطائرة، فكر الشاب كم عانى وسأل وفاوض لنيل بطاقة حضور. فالأمر ليس سهلاً وفي حاجة الى تخطيط وإمكانات مادية ومجهود. ولغير المطلعين على الموضوع، ثمة سوق سوداء لبيع البطاقات، وقد يتخطى ثمن الواحدة أحياناً ألفي دولار وفق أهمية المباراة. هي ليست المرة الأولى التي يشاهد فيها مباراة كرة قدم، إذ إنه متابع لفريقه المحلي ويشاهد مبارياته دائماً، خصوصاً أن نادي النجمة في لبنان قاعدته الجماهيرية كبيرة، وثمة مباريات يشاهدها حوالى 30 ألفاً. اذاً هو معتاد على هدير المدرجات، لكن هدير الـ 70 ألفاً أقوى. التجربة بحد ذاتها جديدة ومميزة، بدءاً من التحضير للسفر وتسلّم بطاقة الحضور والوصول الى الملعب والدخول في الأجواء. الرحلة التي تستغرق نحو خمس ساعات بين بيروت ولندن، مرّت سريعاً. الحلم الصغير بات على مقربة، والمخيلة لا تزال ترسم مشهداً تلو الآخر. مرّ الشاب في مطار هيثرو من دون تأخير، وكأن الجميع يعرف أنه على عجلة من أمره. سألته مدققة الجوازات عن سبب الزيارة، فأجابها أنه هنا لمشاهدة مباراة لمانشستر يونايتد. ابتسمت المدققة وقالت « كم أعشق هذا الفريق».   تليين الحناجر حين وصل الى الفندق، كان يجب أن يرتاح من الرحلة الطويلة، لكنه فضل ترتيب أغراضه والخروج للعشاء في مطعم آسيوي جرّبه سابقاً. في مدينة الضباب، مشى كثيراً، وفكر بابنه النائم وفتاته الصغيرة وكم كان يتمنى لو كانا معه. المشي لن يقصّر مسافة الحلم، لذا قرر العودة الى الفندق والنوم قليلاً، قبل اليوم الموعود. الساعة الرابعة بعد الظهر تنطلق المباراة. ما زال هناك متسع من الوقت. استيقظ باكراً أيضاً، تناول فطوراً خفيفاً، حمل حقيبة على ظهره ومضى الى محطة القطار ليستقله الى مدينة مانشستر التي تبعد ثلاث ساعات عن لندن. قبل دخول المحطة سمع صراخاً كأنه شجار كبير، لكن حين وصل عرف أن مشجعي فريقه وصلوا باكراً وبدأ تليين الحناجر. اشترى قنينة مياه ووجبة خفيفة وتوجه الى مقصورته. في القطار الجميع يتحدث عن المباراة. يوم الأحد مخصص لكرة القدم، الراحة هي مشاهدة مباريات كرة القدم، والاسترخاء هو حرق الأعصاب بالنسبة الى عشاق المستديرة. حاول القراءة في المنصة، لكن ثمة فكرة واحدة مسيطرة على عقله: «أولد ترافورد». قرّر الاستمتاع بوقته والاستماع الى من هم حوله. على يمينه شاب خليجي سيشاهد المباراة ويعود مباشرة الى بلده. يرتدي الشاب قميص مانشستر يونايتد ويلف عنقه بمعطف الفريق. وفي المقدمة ثمة شاب لبناني، حصل على بطاقة عبر رجل أعمال بارز في لبنان. الشاب يتحدث بلغة عالية ويقول إن منطقته تتمتع بحكم ذاتي ولا حاجة هناك إلى مؤسسات الدولة أو أمنها أو خدماتها. الحزب الذي يحكم المنطقة يؤمّن كل شيء للمواطنين ويحميهم من أي عدوان على حد قوله. الساعة الأولى والنصف بعد الظهر وصل القطار الى مانشستر، فتوجه الشاب مباشرة الى الملعب، كان صديقه خالد قد نصحه بما يجب فعله لدى الوصول الى محطة القطار. في محيط الملعب آلاف يتجمعون يأكلون ويشربون ويضحكون ويبتسمون لكل غريب. فالغريب هنا مناصر لهم يشجع فريقهم ويؤيده. في حانة «The Bishop Blaze» يتجمع المتعصبون للفريق، وممنوع الدخول إلا لحملة البطاقات الموسمية، وبما أن صديقنا يحمل بطاقة موسمية من السوق السوداء، دخل الحانة. هنا ترون التعصب شخصياً. مشجعون مستعدون للموت فداء لفريقهم. يتكلمون ويتحدثون بنبرة عالية وتهكمية على بقية الفرق. هنا في الحانة، الآخر غير موجود، وقد يكون قتله «حلالاً». يتكلمون عن كرة القدم كما يتكلم الفقراء في بلادنا عن جوعهم وعوزهم وحاجاتهم. داخل الحانة، ثمة لون واحد: الأحمر. ولأن صديقنا يتمنى مشاركة هذه اللحظات مع «الكورفا» التي ينتمي إليها في لبنان، أراد أن ينقل مباشرة أجواء ما قبل المباراة في محيط الملعب عبر «فايسبوك لايف». في كل لحظة تمنى أن يكون ولداه معه وأعضاء «الكورفا» أيضاً. الأجواء حماسية. والشعور لا يوصف. جنسيات مختلفة موجودة في محيط الملعب، لكن الرياضة توحدها. جولة سريعة في متحف النادي ومتجره، وهدية تذكارية ليوسُف بكره الجميل.   في «مسرح الأحلام» الثالثة بعد الظهر. الملعب فارغ. جلس في مكان ممتاز للرؤية وقريب الى المستطيل الأخضر. لم يعتد صديقنا على هذا المشهد. ففي بلاده عليه الوصول الى الملعب قبل ساعتين من بدء المباراة والانتظار في صف طويل للدخول الى الملعب، وممنوع عليه شراء المياه أو التسالي في الملعب. لكن في «مسرح الأحلام» في أولد ترافورد كل شيء مختلف. الملعب تحفة فنية والتنظيم عالي المستوى والألوان متناسقة، كما لو أنك في دار أوبرا. لا حاجة هناك إلى الوصول باكراً، فلكل مشاهد كرسي ورقم، ومتى وصلت بإمكانك الجلوس والاستمتاع. دخل الفريق لإجراء عملية التحمية، وعلت الصيحات والقبضات منادية بأسماء اللاعبين. تلك الصيحات والقبضات التي لا نراها إلا في الاحتفالات السياسية والخطابية الدينية في بلادنا، ترتفع هنا للجنون والحب والفرح. الشاب في ملعبه المفضل، في مسرح أحلامه. حلمه الصغير تحقق وسيصبح ذكرى. هو من كان يتابع من خلف شاشة التلفزيون، بات في الملعب، يشاهد نجوماً عالميين ويهتف بأسمائهم. الرابعة بعد الظهر، دخول الفريقين الى أرض الملعب. انفجار على المدرجات. 76 ألف شخص يهتفون: يونايتد يونايتد! لا يتعبون ولا يملون من الصراخ. لست في حاجة إلى أن تقول لمن هم أمامك «اجلسوا لو سمحتم لا أستطيع الرؤية». ثمة تنظيم ميكانيكي لحركة الجمهور وفق خطورة الهجمة أو موقع الكرة. في الدقائق العشرين الأولى من المباراة، تلقى مانشستر هدفاً، لكن ذلك زاد حماسة الجمهور وعزيمته لتشجيع اللاعبين على التعويض. على عكس ما يحصل في بلادنا، اذ حين يتلقى فريقي المحلي المفضل هدفاً تتساقط الإهانات على اللاعبين والإدارة والحكم. جميع محبي الكرة الذين يعرفهم حاضرون في ذاكرة الشاب، لذا وجه تحية مباشرة من الملعب كتبها على ورقة بيضاء: «تحية الى أعضاء الكورفا من مسرح الأحلام ملعب أولد ترافورد». كما رفع علم ناديه المفضل (النجمة) ولوّح به. الرياضة هنا حياة لها عاداتها وتقاليدها وموازنتها. أن تشاهد مباراة حية في مانسشتر، يعني أنك تمارس حبك وعشقك على طريقتك، أن تتشارك أحلامك مع آخرين لا تعرفهم، وأن تتمنى أن يشاركك من تحبهم هذه اللحظات. في الدقائق الأخيرة من المباراة، سجل اللاعب السويدي زلاتان إبراهيموفيتش هدف التعادل، وهنا تغير المشهد: الثورة انطلقت. الحناجر تصرخ بأعلى طبقاتها. الفرح يغمر المدينة. عناق بين أغراب. قُبل سريعة. دمع على خد ناعم. هواتف توثّق هذه السعادة. وجنون لا ينتهي. يطلق الحكم صفرة النهاية. يخرج الجمهور على مهل وبكل سهولة. يجلس الشاب قليلاً في كرسيه، يستمتع ببقائه دقائق إضافية فالحلم انتهى، وحلم جديد يحتل مكانه في المخيّلة.

مشاركة :