عندما نتأمل المشهد المصري بعد ست سنوات على اندلاع ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011، تبرز أمامنا أربع فئات تتصارع داخله، في ظل تزايد تعقد أسئلة العدالة الاجتماعية التي تصدرت مطالب الثائرين. تنتمي الفئة الأولى إلى ثورة 25 يناير وأنصارها وحلفائها. وهؤلاء يتطلعون إلى تحقيق أهداف الثورة التي تتجسد في إقامة نظام سياسي اجتماعي عادل، إذا لم يكن الدين فيه مستقلاً عن السلطة التنفيذية، فإنه على الأكثر لا يمارس دوراً سلطوياً يلحق الضرر بالثقافة والحريات الاجتماعية والفكرية. وتضم هذه الفئة شباب الثورة وبعض النخب السياسية من ورثة الأحزاب القديمة والتنظيمات التي استحدثتها ظروف ثورة يناير. وقد فشلت جهودهم لتشكيل تحالفات جبهوية قادرة على حمل المسؤولية التاريخية ومواجهة تحديات المرحلة. وتضم الفئة الثانية رجال الأعمال وأنصار نظام مبارك، وسائر المجموعات التي لم تناصر ثورة يناير ولكنهم انضموا بكثافة إلى انتفاضة 30 يونيو. هؤلاء يتطلعون؛ بل يسعون بشراسة إلى تحقيق الاستقرار الكفيل بحماية مصالحهم وامتيازاتهم الطبقية والسياسية ويؤيدون إصلاح الأوضاع الراهنة من دون تغيير جوهري في بنيتها وآلياتها ويوظفون وسائل الإعلام الخاص؛ المقروء والمسموع والمرئي؛ للترويج لأفكارهم والدعاية الفجة للحاكم ولآلية الانتخابات البرلمانية التي تتيح لهم الفوز الكاسح بسبب اعتمادها على النظام الفردي. الفئة الثالثة تشمل القطاعات الشعبية التي عانت ولا تزال تعاني التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكان أبناؤها وقوداً للثورة والاعتقالات العشوائية ولم يتحقق لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة حتى الآن، ولا يزال شبابهم أسير السجون والمعتقلات من دون محاكمات عادلة. وتواصل الفئة الرابعة المؤيدة للنظام الحالي جهودها المستميتة ضد أي محاولات لاستلهام الحكمة والتوازن الفكري والسياسي والسعي لتحقيق الحد الأدنى من وعود الرئيس. وهؤلاء ليس لديهم برنامج أو مشروع كفيل بتحقيق الخطوات الأولى الممهدة للعدالة الاجتماعية واستعادة الأمن المجتمعي. ويتوهم هؤلاء المتحلقون حول النظام الحالي أن مصلحتهم المستمدة من الرؤية الأحادية المنحازة اجتماعياً إلى الأثرياء لتؤسس لشراكة تستقطب التمويل والدعم المالي والسياسي؛ اعتماداً على المعونات الخارجية. ولعلهم لا يدركون أن معظم الدول الممولة معنية أساساً بمنظومة سياسية وإستراتيجية تحقق الاستقرار لهم ولمصر معاً وتحمي هذه النظم من التهديدات والتغيرات المصاحبة لفترة التحول التاريخي التي ستجتاح العالم العربي عاجلاً أو آجلاً. حان الوقت كي نطرح أسئلة تؤرق أذهان ونفوس المهمومين بمستقبل الوطن. إذا كانت السلطة السياسية الحاكمة تسعى حقاً لتحقيق الاستقرار والأمان المجتمعي، فما هو المقصود بهذا الاستقرار؟ استقرار النظم الحاكمة في كراسيها واستمرار حكامها في السلطة؛ أم استقرار الشعوب المفقرة والمقموعة؟ وهل يتحقق الاستقرار من خلال التبرعات الشخصية ومهادنة الأثرياء وكبار التجار والسماسرة وعدم المساس بامتيازاتهم وثرواتهم المغتصبة من أقوات الكادحين؟ أين يكمن الخطأ؟ هل هي التمايزات الطبقية المتفاقمة والتي تتجسد في تجاهل الحكام للشعوب والاستمرار في إهدار حقوقها المشروعة مع تحصين الفئات المستفيدة من رجال أعمال ونخب سياسية وثقافية ورجال دين؛ هؤلاء الذين ينظرون إلى جموع الكادحين على أنهم مجرد رعاع؛ كسالى؛ يستحقون الفقر والتهميش بل والقمع والإفقار؛ خصوصاً إذا تعالت أصواتهم بالمطالبة بحقهم في حياة كريمة؟ وهل يستمر الجمود الديني والتمسك بمدرسة فقهية توفر للحاكم فقه السمع والطاعة. ولماذا لا يَسمح الأزهر بفتح أبواب الاجتهاد لمواكبة مستجدات العصر ومواجهة تحدياته؟ وهل تمنحنا ممارسات المؤسسة الأمنية الأمل بإمكانية تشكيل برلمان يضمن تمثيلاً متوازناً ورشيداً بعيداً من هيمنة السلطة التنفيذية والمال السياسي المشبوه وسوء استخدام الدين؟ وما هو مصير التحالفات السياسية التي نسمع عن فشلها قبل أن تستكمل دورة الحياة والنمو الطبيعي، خصوصاً أنها لا تزال محملة بالتركة الثقيلة من آثار الجرائم التي ارتكبها نظام مبارك، سواء في تجريف الحياة السياسية أو إفقار القطاعات الجماهيرية وتحجيمها بصورة ممنهجة ومدروسة؟ في النهاية؛ هل يستطيع صناع القرار الوطني والنخب المتحلقة حول النظام الحالي أن يتجاهلوا الكم الهائل من القضايا والتحديات الاجتماعية والسياسية والأمنية التي تهدد الأمن المجتمعي في مصر، من دون أن يتسلحوا بإستراتيجية للمواجهة تحدد الأولويات والخطط والبرامج والآليات الكفيلة بضمان الاستقرار الحقيقي للجماهير وصنّاع القرار معاً، بدلاً من اللجوء إلى المسكنات والحلول المبتورة والقرارات المنحازة إلى الأغنياء والتي تؤدي إلى استنزاف طاقة المجتمع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في ممارسات غير مدروسة وفي خطاب إعلامي وسياسي فقير وعاجز عن مواجهة أزمات وتحديات المرحلة الحالية؟ * كاتبة مصرية
مشاركة :