الآن، وبينما لاح وميض أمل بإمكانية استعادة السوريين بلدهم واستعادة سوريا نفسها، فإنه يجب الاعتراف بأن المعارضة السورية بفصائلها المعتدلة، التي ليس من بينها لا «داعش» ولا «النصرة»، قد اقترفت إثمًا فادحًا وخطأ كبيرًا عندما ساهمت إنْ بالأقوال وإن بالأفعال في دفع الطائفة العلوية دفعًا إلى الاحتماء بنظام بشار الأسد والتخلي عن اعتراضاتها السابقة على هذا النظام، وهي تعرف أكثر كثيرًا من غيرها أنه نظام استبدادي وفاسد وأنه مع الوقت قد تحول إلى نظام عائلي يتحرك في دائرة مقفلة وأنه بممارساته التي تميزت بالسلب والنهب والاستبداد والقمع على مدى كل هذه السنوات الطويلة منذ عام 1970 قد أوصل البلاد إلى كل هذا الدمار وأوصل الشعب السوري إلى كل ما هو عليه الآن. لقد وقَعَت المعارضة السورية، والمقصود هنا هو المعارضة «المعتدلة» التي تسعى إلى دولة علمانية وديمقراطية وتعددية، كل مواطنيها متساوون في الحقوق والواجبات، في الشرك الذي نصبه لها نظام بشار الأسد عندما لم تفرق بين هذا النظام والطائفة العلوية ووضعت الجميع في سلة واحدة وجعلت أكثر العلويين عداء لهذه الطغمة الحاكمة الفاسدة لا يجدون أمامهم أي خيار إلا خيار الاحتماء بها وأيضًا القتال دفاعًا عنها، وعلى اعتبار أن بقاءها بقاء لهم وأن زوالها زوال لوجودهم في هذا الوطن، الذي من المفترض أنه وطنهم ووطن السوريين كلهم بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية والقومية. كان على المعارضة ألا تصاب بعمى الألوان السياسي وأن تبادر منذ الأيام الأولى، منذ انطلاقة هذه الثورة من درعا في مثل هذه الأيام من عام 2011 إلى حصر المواجهة في هذا النظام العائلي الاستبدادي ومن دون أي أبعادٍ طائفية ومذهبية وعلى أساس أن معاناة أبناء الطائفة العلوية من نظام بشار الأسد الذي ورثه عن والده حافظ الأسد هي جزء لا يتجزأ من معاناة الشعب السوري كله، وأن الويلات التي حلَّت بأبناء الأكثرية السنية منذ عام 1970 وقبل ذلك قد حلت أيضًا بأبناء هذه الطائفة التي فقدت خيرة رموزها وقياداتها، إنْ في السجون والزنازين «الأسدية» وإنْ برصاص كواتم الصوت والاغتيالات غير مجهولة الهوية. وبالطبع، فإنه لا نقاش في أنَّ المسؤول عن هذا الارتباك الذي لا تزال تعاني منه المعارضة السورية هو أن الأنظمة التي تداولت الحكم في سوريا، معظمها إنْ ليس كلها، أنظمة انقلابات عسكرية منذ انقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وحتى انقلاب حافظ الأسد في عام 1970، وأنها جميعها، حتى بما في ذلك انقلاب الانفصال في عام 1961، وانقلاب الثامن من مارس (آذار) البعثي في عام 1963 قد ساهمت في تدمير الحياة السياسية والعلاقات الاجتماعية في هذا البلد الذي لم يكن يعرف لا الطائفية ولا المذهبية، الذي احتل فيه المسيحي - اللبناني فارس الخوري وزارة الأوقاف الإسلامية، إضافة إلى رئاسة مجلس النواب ووزارة المعارف. ولعل ما تجب الإشارة إليه في هذا المجال هو أن حافظ الأسد قد بدأ مشوار السيطرة على الحكم في سوريا بالانضمام إلى اللجنة العسكرية التي كان بدأها خمسة من الضباط السوريين، الذين كانوا قد تم نفيهم مثلهم مثل غيرهم إلى مصر في بدايات الوحدة المصرية - السورية القصيرة العمر، ثلاثة منهم من الطائفة العلوية، هم، إضافة إلى الأسد نفسه، محمد عمران وكان أعلاهم رتبة، وصلاح جديد، واثنان من الطائفة الإسماعيلية هم عبد الكريم الجندي الذي أصبح مديرًا للمخابرات السورية، وأحمد المير الذي كان قائدًا لجبهة الجولان عندما سقطت الهضبة السورية في أيدي المحتلين الإسرائيليين في حرب يونيو (حزيران) عام 1967. كان حافظ الأسد أقل هؤلاء الضباط رتبة لكنه ما لبث أن برز كثقل رئيسي وأساسي في صراعات العسكريين على السلطة في فترة ما بين «ثورة» مارس عام 1963 وحركة الثالث والعشرين من فبراير (شباط) عام 1966 بتحالفه أولاً مع صلاح جديد للقضاء على محمد عمران وإقصائه ثم الارتداد على حليفه هذا، أي صلاح جديد، بدءًا بعام 1968 إلى أن قام بانقلابه الشهير في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1970 الذي أطلق اسم «الحركة التصحيحية» عليه، وحيث وضع كل قيادات الحزب والدولة، ومن بينهم رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، في زنازين سجن المزة الشهير، التي بقوا فيها سنوات طويلة وانتهوا إما موتى وهم خلف قضبان أبواب هذه الزنازين، أو أخرجوا وهم ينازعون سكرات الموت ليموتوا في بيوتهم، بعضهم خلال أيام قليلة وبعضهم الآخر خلال أسابيع. وهنا، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن المعارضة الحقيقية، التي كادت تطيح بنظام حافظ الأسد في فترة منتصف سبعينات القرن الماضي، هي معارضة ضباط القوات المسلحة من أبناء الطائفة العلوية الذين كانت غالبيتهم الفاعلة مما يسمى كتلة محمد عمران، ومما يسمى كتلة صلاح جديد، الذين تعرضوا لاحقًا لمسلسل تصفيات أخرجت كل المنتمين لـ«العائلات» الرئيسية في هذه الطائفة، ليس من الجيش السوري والأجهزة الأمنية فقط، وإنما أيضًا من الحياة السياسية... لا، بل من الحياة الإنسانية. لقد كان انقلاب حافظ الأسد في عام 1970 ليس انقلابًا على حزب البعث وعلى تركيبة الدولة السورية فقط، بل هو انقلاب على العائلات والقيادات المتنفذة في الطائفة العلوية، حيث إن كبار الضباط العلويين الذين عارضوا ما سمي «الحركة التصحيحية» قد تم التخلص منهم إما بزجهم في السجون والمعتقلات وإما بالإقامات الإجبارية الطويلة في مناطقهم ومنازلهم أو بالتجويع أو بالاغتيالات الجسدية، وذلك كما حدث مع اللواء محمد عمران الذي كان يعتبر أهم ضابط علوي وتم اغتياله بعدما ازداد خطره على نظام العائلة الأسدية في طرابلس (اللبنانية) في عام 1972. كان يجب أن تلتقط المعارضة السورية هذه المسألة منذ البدايات، وكان عليها أن تدرك وتعرف أن وزير الخارجية السوري الأسبق إبراهيم ماخوس كان غادر سوريا بعد حركة حافظ الأسد «التصحيحية» مباشرة ولجأ إلى الجزائر التي كان قد انضم إلى ثورتها طبيبًا ميدانيًا، مثله مثل نور الدين الأتاسي ويوسف زعين، قد بقي يسعى للإطاحة بهذا النظام وبالعمل العسكري وكاد يفقد حياته بمحاولات اغتيال كثيرة قامت بها المخابرات السورية، وكان من الممكن أن تنجح إحداها لولا تدخل الرئيس الجزائري السابق هواري بومدين في اللحظة المناسبة. والمهم ولتفادي أنْ تكون نتيجة كل هذا الذي يجري هو تقسيم سوريا، استنادًا إلى دستور الكرملين الروسي، وإلى ما سمي «سوريا المفيدة»، فإنه على المعارضة السورية أنْ تعرف أن هناك عددًا كبيرًا من الرموز العلوية الوطنية والقومية قد صودرت جوازات سفرها ووضعت في الإقامة الإجبارية؛ ولذلك فإنه عليها أن تبادر إلى الاتصال بهؤلاء ليكونوا جزءًا من المرحلة الانتقالية التي تم الاتفاق عليها في (جنيف1).
مشاركة :