يحتوي جسم الإنسان على أعداد لا حصر لها من الكائنات الدقيقة Microbiota، وليس الأمر عبثاً على الإطلاق؛ بل تلعب هذه الكائنات دوراً محدداً يجعل الألسنة تلهج بذكر الله -تعالى- القائل: "إنّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدر"، فتعالَ معي -صديقي القارئ- لنطوف في هذا العالم قليلاً. يحتوي الفم على سبيل الذكر على ما يزيد عن 700 نوع من الكائنات الدقيقة، والقناة الهضمية تحتوي على ما بين 500 و1000 نوع من الكائنات الدقيقة، ويحتوي المهبل على عدد كبير من الكائنات الدقيقة وسطح الجلد بيئة مناسبة لأنواع كثيرة جداً من هذه الكائنات، فما أنواع هذه الكائنات؟ وما الحكمة من وجودها على الجلد وداخل أجهزة الجسم المختلفة؟ بدايةً يتعين علينا الإشارة للخطوط العريضة لتقسيم هذه الكائنات داخل الجسم، فهي تنقسم من حيث تأثيرها على الإنسان إلى: 1- كائنات صديقة للإنسان وتدعى علمياً الفلورا الطبيعية Normal Flora. 2- كائنات ممرضة Pathogenic Microorganisms. 3- كائنات انتهازية Opportunistic Microorganisms. النوع الأول يتوافر بشكل يضمن أداء بعض أجهزة الجسم المختلفة بشكلٍ يسهم في صحة جيدة للإنسان (العائل Host)، والنوع الثاني قد كشف عن نواياه، فأصبح الاحتراس منه في حيز التأكيد، فقد أقبل على الجسم شاهراً سلاحه، في حين أن النوع الثالث أشد هذه الأنواع خطراً، فهو يعيش داخل الجسم إلا أنه يتحين الفرصة ليخاتل الجسم ويثور ضده، ويقوم بإثارة الفوضى والشغب، لا يحترم الأعراف والقوانين داخل الجسم؛ بل يحاول متى واتته الفرصة أن يفتك بصاحبه، تراه كالمنافقين لا يبدون ما يختلج في صدورهم، فإن تمكنوا أفسدوا وطعنوا من الظهر طعنةً نجلاءَ لا يُرجى لها بُرْء. الفلورا الطبيعية أبرمت معاهدة سلام دائمة مع الجسم البشري والتزمت بها، وتقضي هذه المعاهدة بالتزام الجسم البشري بتوفير البيئة الموائمة والغذاء المناسب للفلورا الطبيعية، على أن تتعهد الفلورا الطبيعية بمساعدة الجسم على امتصاص الغذاء والماء، وإنتاج فيتامين K وفيتامين كوبالامين B12، وامتصاص الحديد والكالسيوم والماغنسيوم، وكذلك إفراز إنزيمات تساعد على امتصاص الكربوهيدرات وتحويلها إلى طاقة يستفيد منها الجسم. الكائنات الانتهازية تعيش في الجسم وتخضع مجبرة لقوات حفظ الأمن داخل الجسم التي تمثله (درجة الأس الهيدروجيني PH)، فإذا ما اختلت درجة الأس الهيدروجيني لسبب أو لآخر مثل تناول المضادات الحيوية، والحمية الغذائية والقاسية، والإسهال، والملوثات البيئية، والعوامل الوراثية، والعلاج الكيماوي، والأكل غير الصحي وغيرها؛ فإن الكائنات الانتهازية تستغل هذه الفرصة وتقوم بنشاط غير طبيعي لإنهاك الجسم وإضعافه وربما أجهزت عليه. من بين الكائنات الانتهازية بكتيريا Helicobacter pylori التي تعيش في المعدة وخاضعة لقوانين المعدة وسيادتها في الظروف العادية، فإن اختل الأس الهيدروجيني لأي سبب مما سبق ذكره، فإن H. pylori تعمل على إنتاج الأمونيا وبهذا يُحدِث تغييراً في بيئة المعدة يترتب عليه الإصابة بقرحة المعدة. كذلك فإن فطر الكانديدا Candida albicans الذي يعيش في بيئة المهبل وفي ظل درجة الأس الهيدروجيني الحمضية، إلا أنه في الظروف المواتية يتحول من فطر مستكين ومنطوٍ إلى فطر مشاغب يعيث في المكان فساداً وينجم عن ذلك إفرازات غير مقبولة، ورائحة كريهة تشبه رائحة البيض الفاسد، مع الإحساس بالحكة والوخز وقد يؤدي للعقم إن أُهمِل علاجه. لعل من المفيد أن نذكر هذه التجربة الفريدة، التي أجريت للوقوف على أهمية وجود الكائنات الدقيقة داخل الجسم، فنظراً لما تقوم به الكائنات الانتهازية من مهاجمة للجسم، فقد ارتأى العلماء ضرورة دراسة الأجسام الخالية من الكائنات الدقيقة، فقاموا بإجراء عمليات ولادة قيصرية للأرانب، وقاموا بحفظ الحيوانات الجديدة في بيئات خالية تماماً من الكائنات الدقيقة وأطلق على هذه الحيوانات Germ-Free animals. لاحظ العلماء نتيجة مذهلة مفادها:- أولاً: كانت فترة حياة الأجيال الخالية من الكائنات الدقيقة ضعف فترة حياة الأجيال الطبيعية. ثانياً: سبب وفاة الحيوانات الجديدة اختلف عن نظائرها من الحيوانات العادية في أمرين؛ العدوى هي السبب الرئيسي في وفاة الحيوانات العادية، في حين أن سبب وفاة الحيوانات الخالية من الكائنات الدقيقة كان يرجع بصفة أساسية إلى ضعف قدرة عضلات الأمعاء Intestinal atonia على الحركة. لاحظت الدراسة كذلك أن الحيوانات الخالية من الكائنات الدقيقة تختلف في بعض الأمور التشريحية والوظائفية والمناعية عن الحيوانات العادية. فعلى سبيل المثال الحيوانات الخالية من الكائنات الانتهازية كانت تعاني من تناقص مساحة alimentary lamina propria مع غياب immunoglobulin بالإضافة لضعف حركة الأمعاء Intestinal motility. كذلك فإن معدل تجدد الخلايا الطلائية بأمعاء الحيوانات الخالية من الكائنات الدقيقة كان يعادل نصف معدل تجدد نفس الخلايا في الحيوانات العادية. هناك العديد من السبل التي يمكن الاستعانة بها من أجل استرداد الفلورا الطبيعية في حال إذا ما نقص معدلها لأي سببٍ كان. من بين هذه الطرق تناول منتجات الألبان لا سيما الزبادي، وخصوصاً المحتوي على البكتيريا الطبيعية والمعروفة باسم Probiotic فهي تؤدي لزيادة الفلورا الطبيعية، مما يترتب عليه سرعة استرجاع الظروف المثلى التي تحول دون نمو الميكروبات المزعجة. تحتوي Probiotics على بكتيريا صديقة للجسم مثل بكتيريا لاكتوباسيلس Lactobacillus spp وبيفيدوباكتيريم Bifidobacterium spp وهي أنواع تعمل على توفير البيئة غير المناسبة لنمو الميكروبات الممرضة والانتهازية. أيضاً فإن Prebiotics مهمة جداً وهي تختلف عن Probiotics إذ إن Prebiotics عبارة عن كربوهيدرات يتم تناولها في صورة كبسولات لتصل للمعدة والأمعاء فتتغذى عليها الفلورا الطبيعية بشكل مباشر مما يرفع من نشاطها. أيضاً تناول بعض الأطعمة والفواكه يساعد على كبح جماح البكتريا المزعجة، ومن ذلك أن بكتيريا العقدية الطافرة S. mutans -الموجودة بمعدل ما بين 30 و60% داخل الفم والمسؤولة عن إنتاج حمض اللاكتيك، الذي بدوره يهاجم طبقة الإناميل ويساعد على تسوس الأسنان- يمكن السيطرة عليها بتناول الأطعمة القلوية التي تمنع توافر البيئة الموائمة لنشاط بكتيريا تسوس الأسنان. الأطعمة القلوية منها السبانخ والبروكلي والخيار والبصل والفاصوليا الخضراء، ومن الفواكه العنب والمانجو والأفوكادو، والفواكه الحمضية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :