الطريقة التي يدير بها الرئيس عبدالفتاح السيسي حواراته مع الشباب ولقاءاته مع النخبة الثقافية، تؤكد أنه على استعداد للاستماع لرؤى مختلفة، ويستوعب الآراء المعارضة لسياساته، ولديه قدرة ومرونة على تفهم أسباب ودواعي انتقاد المسئولين، ويملك حنكة كبيرة في البحث عن حلول شافية وسريعة لها. في المقابل، نرى ضيقا من النقد الذي يوجه لآخرين، وافتقادا لرجاحة العقل أحيانا، ومقدرة عجيبة على التهرب من وسائل الإعلام، وأكثر من ذلك العمل على زيادة الحواجز التي تفصل بينهم والإعلام، ربما تكون هناك تجاوزات ارتكبها بعض الزملاء، لكنها في النهاية لا تعني الضيق والضجر والخصام والمقاطعة، لأنها سوف تسمح بنشر وإذاعة وترويج تخمينات ومعلومات ليست دقيقة، تفتح الباب لمزيد من البلبلة والشوشرة والأزمات، أو الاستسلام لوجهات نظر المسئولين، ثم يتحول البعض إلى "ملكيين أكثر من الملك" كما يقول المثل الشعبي. التجربة علمتني أنه لا توجد جهة رسمية تملي تعليمات بعينها، وإن قامت بواجبها وأعطت عناوين عامة في قضايا محددة، فإن كل مسئول في أي مؤسسة، إعلامية أو غير إعلامية، يطوعها وفقا لمروحته الثقافية والفكرية. فالحفاظ على المصالح الوطنية لا يتعارض مع إتاحة هامش معتبر للحرية، والولاء ليس المقصود منه الطاعة العمياء، ونيل الثقة لا يراد منها تنفيذ الأوامر بلا تدبر وتدقيق، كما أن الترقي في المناصب يكون بوقف التدهور وزيادة مساحة التقدم والتطوير. لكن يبدو أن هناك من يرتاح، ولو ضمنيا، لصيغة تنفيذ التعليمات بأكثر مما يجب، خاصة من جانب قطاع يعمل في وسائل الإعلام أو يمتهن العمل السياسي، ولم يعد من الغريب أن يعزف كثيرون سيمفونية (مقطوعة) واحدة، منهم من يعزفها في هدوء فتأتي معقولة وفي سياقها، ومنهم من يؤديها عبر الصمت عن التجاوزات وتجنب الانتقادات، ومنهم من يعزفها بصخب، من خلال السعي لتزيين وتسويق توجهات وممارسات لعدد من المسئولين، وهذا الشق أصبح خطيرا، لأن تعمد تسليط الأضواء والمبالغة في تحسين صورة هذا المسئول أو ذاك والبعد عن الموضوعية، تقلل من قدره وتؤثر على انجازاته الحقيقية. الاستجابة للإشادة مسألة إنسانية يطرب لها كثير من الأشخاص، لكن عندما تتحول إلى حالة عامة تفقدها المصداقية المطلوبة، كما أن تجاهل الإيجابيات ليس في صالح الدولة، لذلك يجب أن تكون النظرة بشرية وعقلانية، تنطوي على إشادة ونقد معا لمزيد من التحسن والتقدم، أما أن تتسابق الغالبية الإعلامية والسياسية والاقتصادية للتفنن في وصلات النفاق والرياء والتضخيم فهذه أكبر مصيبة يمكن أن تواجه بلد يسعى إلى النهضة والقيادة والريادة. الصوت الواحد يكون صداه واحدا أيضا وينحصر في أصحابه ومريديه، ويؤدي إلى توسيع نطاق السياسات الخاطئة، فإذا لم يجد المسئول نقدا من هنا وتصويبا من هناك، سيواصل المضي في طريق الخطأ، ومن يتعللون بطبيعة الظروف والأجواء والمكايدات والتحديات، عليهم إدراك أن التلاحم الوطني لا يعني الانسجام والتوافق والتقارب والانسحاق، فكل شخص يستطيع خدمة هذا البلد بالطريقة التي يرى أنها مناسبة، في حدود الالتزام بالقانون والدستور والثوابت المتعارف عليها، وأي تضييق مقصود أو غير مقصود يمكن أن يفضي إلى زيادة معدل المشكلات وليس حلها. من ينظر إلى الطبقة السياسية الظاهرة على السطح يجدها تتسابق في مدح الإجراءات التي تتخذ، حتى لو كانت مليئة بالعيوب والفجوات والثغرات، وأعجبني سيدة وفتى أسوان، عندما بث كل منهما شكواه في حضور الرئيس خلال مؤتمر الشباب مؤخرا، الذي أعطى درسا قويا لمن يعتقدون خطأ أن سياسة "كله تمام" وسيلة ناجحة للاستمرار في المناصب أو الاقتراب من دوائر صناعة القرار، وقد فاتهم أن هناك وسائل متعددة يتسرب منها الكلام. ربما ساعد القدر هذه السيدة وهذا الفتى في توصيل صوتيهما للرئيس مباشرة، وهو ما يعني أنهما (وغيرهما) فقدا الثقة في بعض نواب الشعب، ولم تعد وسائل الإعلام تحتل مكانة رفيعة لتوصيل الأصوات التي أصبح كثيرون يعتبرونها "نشازا"، والطريقة التي تعامل بها الرئيس السيسي تحمل رسالة لكل من تسول لهم أنفسهم الإصرار على تقديم صورة غير حقيقية، أو اختيار الجانب المضيء فقط، فإذا لم يتم التركيز على السلبيات لن ينصلح حال البلاد، ولن يشعر الناس أن هناك جهودا تبذل ومشروعات تنموية تنتشر في ربوع مصر، والأخطر أن ثقتهم في ما يبذل من أجل المستقبل سوف تتراجع، وقد تتوارى في خضم حفلات المدح ووصلات الردح. يقيني أن مصر تواجه تحديات مختلفة، والوصول إلى درجة متقدمة من الديمقراطية أمامه أشواطا كثيرة صعبة ودقيقة، لكن يقيني أيضا أن تحولنا جميعا إلى صوت يطرب لترديد مقولة "كل شيء على ما يرام" يمكن أن يؤدي إلى مشكلات أشد وطأة، فالإشارة إلى العيوب والأخطاء وتقبل الانتقادات، أفضل من الإشادة بالإيجابيات، ولفت الأنظار إلى التجاوزات والإخفاقات أهم من عدم التوقف عند العقبات، فأي دولة مثل مصر لديها إرادة وطموحات، تسعى إلى تصحيح عيوبها أولا بأول، وزيادة جرعة الحريات وفقا للضوابط التي حواها الدستور. قطاع كبير من المصريين يدرك ويعي أن سعة صدر الرئيس السيسي أوسع بكثير من مسئولين وإعلاميين يتشدقون بذريعة دفاعهم عنه، وإدعائهم كذبا أن مصلحة البلد تستوجب تضييق الخناق وحجب الأصوات المعارضة والتشهير الفج بأصحابها، والاكتفاء بالصياح والصراخ والضجيج، في حين المصلحة الحقيقية تتطلب ضرورة التدقيق في الجانب الخفي من الصورة، لأنها (الصورة) سوف تكون أحلى وأوقع عندما يتم النظر إليها من زوايا متعددة. الواقعية التي نتمنى أن تسود في معالجة القضايا والملفات المهمة، تنبع أهميتها من قطع الطريق على تزايد اللجوء إلى العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعج بمعلومات واجتهادات خاطئة، يستثمرها البعض في تشويه الصورة العامة لمصر، وينقلها من الدرجة الرمادية التي نعيشها الآن إلى حالة غريبة من الظلام، وبالتالي إيجاد بيئة ضارة بالتوجهات والأمنيات، ولأن مصر تستحق مكانة مؤثرة في المحيط الخارجي، فلابد أن تكون هناك سيمفونيات سياسية وإعلامية عدة، لكي يتضح الخيط الأبيض من الأسود. محمد أبو الفضل
مشاركة :