من حبل المشنقة في بغداد إلى أوبرا القاهرة

  • 2/3/2017
  • 00:00
  • 74
  • 0
  • 0
news-picture

يبدو أنني كنت أعيش طوال السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في بلد آخر غير العراق. أو إنني كنت في غيبوبة ولم أكن مع كثيرين في قلب الأنشطة الصحافية والإعلامية والثقافية والفنية داخل العراق في تلك السنوات. أو يخيل لي أن قطاراً هندياً دهسني ونجوت لكني فقدت الذاكرة ولم أعد أعي ما كان يحدث من حولي في الصحف والإذاعة والتلفزيون والمسرح والسينما والمهرجانات الفنية والأدبية. أو تراءى لي أن الصحافيين والإعلاميين والمطربين والملحنين والموسيقيين والمسرحيين والشعراء والرواة والرسامين والنحاتين والمنافقين والباطنيين الذين كانوا يملأون الصحف والنوادي والنقابات والمسارح والإذاعة والتلفزيون وقاعات العروض، هم غير هؤلاء الذين نراهم اليوم ونسمعهم ونقرأ لهم يتبجحون بصفحات «نضالهم» المجيد و«جهادهم» العظيم في تلك السنوات ضد الدكتاتورية والاستبداد والحزب القائد و«زبيبة والملك»، وكيف أنهم عبروا الحدود وتسلقوا الجبال وتاهوا في الصحارى وركبوا البغال تارة والبعران تارة أخرى وسبحوا في نهري دجلة والفرات تحت جنح الظلام تارة ثالثة. بل إن أحدهم هرب من العراق بعد أن «طرق مسمعه» أن هناك مرسوماً جمهورياً سرياً بإعدامه، وفرّ آخرون لأن «ابن الرئيس» قرر تصفيتهم في معسكر الرضوانية الوحشي كما زعموا. وأكثر من ذلك فإن صدام «شخصياً» لا شغل له ولا مشغلة سوى مطاردة المبدعين ومنع إذاعة وعرض أغانيهم وموسيقاهم وقصائدهم لأنهم كما زعموا لم يجددوا «البيعة» له وقالوا بأعلى أصواتهم: يسقط النظام! قرأت في السنوات الأخيرة أكثر من ادعاء وتلفيق وبيع بطولات زائفة من قبل بعض المبدعين العراقيين الذين لا يحتاجون أساساً إلى هذا السلوك لأنهم فعلاً علامات مضيئة ومتألقة في مجالاتهم. كان النجم الكبير كاظم الساهر عانى كثيراً من المرحوم عدي النجل الأكبر لصدام حسين، لكنه ظل عراقياً وطنياً ولم «يتاجر» بهذا الأمر كما فعل مبدعون آخرون بادعاء أن أغانيهم أُتلفت وأنهم منعوا من الظهور في التلفزيون مع علمهم أن هذه المسألة بالذات كانت خاضعة لمزاج عدي وقناة تلفزيون الشباب العائدة له. وليس لرئيس الدولة أو وزارة الإعلام أي دخل فيها بدليل أن أغانيهم كانت تذاع من تلفزيون بغداد وفضائية العراق الرسميتين، بل تمادى أحدهم بزعم أن صدام حسين حكم عليه بالإعدام وأنه أفلت من حبل المشنقة في اللحظة الأخيرة بعد أن هرب على طريقة الأفلام الأمريكية إلى دار الأوبرا في القاهرة! أقول بود لهؤلاء المبدعين أينما كانوا مثلاً عراقياً تحذيرياً: «لقد دفَنّاه سوية»، مع الفارق طبعاً، عن عصابة قتلت أحد الأشخاص، وأراد أحد أفرادها أن يتبرأ من الجريمة، فقالوا له: لقد دفَنّاه سوية! أنا لا أدافع عن النظام السابق في بلدي، فقد ارتكب كثيراً من الأخطاء والخطايا في مسيرة صعبة وتحديات معقدة، وكان سهلاً عليه أن يتبرقع بالديمقراطية الأمريكية ويعين وزراء وجاهة من أحزاب المعارضة التي تحكم العراق اليوم ويقول للعالم: نحن ديمقراطيون مثلكم ولا نخشى المعارضة، بل نرحب بها لتشترك معنا في الحكم بوزراء للإسكان والسياحة والأوقاف والزراعة والري والبلديات والعمل والشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم العالي والتربية والتعليم، مثلما تفعل الأحزاب الحاكمة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وكوريا ويحتفظ حزب البعث لنفسه بما يسمى الوزارات السيادية مثل الخارجية والداخلية والدفاع والإعلام والنفط والمالية. كان بإمكان النظام السابق أن يسقط ورقة الديكتاتورية بمراسيم وقرارات وإجراءات شكلية، أو حتى حقيقية، مثل معظم دول العالم الثالث ويسمح للمعارضة بإصدار صحفها الخاصة. لكنه لم يفعل ذلك بسبب ظروف الحرب ضد إيران التي استمرت ثمانية أعوام، ثم حرب الكويت التي لم تستمر سبعة أشهر فقط وإنما امتدت بالحصار الاقتصادي والقصف الأمريكي – البريطاني شبه المستمر ومنطقتي الحظر الجوي في الشمال والجنوب نحو 13 عاماً، طوى فيها النظام السابق ما كان يَعِد به من بناء «الدولة النموذج»، وتفرغ للدفاع عن نفسه وتفادي مؤشرات حرب ثالثة تنوي الولايات المتحدة شنها عليه بحجة امتلاكه أسلحة محظورة. غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. لكن لا أحد ينكر، إلا إذا كان جاحداً، أن النظام السابق، نظام الرئيس الراحل صدام حسين، حافظ على ركائز دولة العراق من مؤسسات وقضاء وجيش وشرطة وحدود وسفارات وخدمات صحية وتعليمية واجتماعية وحقوق المواطنة وواجباتها ونظام تمويني رشيد حمى الناس من المجاعة. وقاوم أي محاولات لتمزيق النسيج الوطني، وهذا واجبه، وأي محاولات لقلب نظام الحكم، وهذا حقه، لأنه كان يدرك أن البديل هو النظام الطائفي التخريفي الموالي لإيران. لم تكن عصا النظام موجهة ضد هذه الطائفة أو تلك القومية؛ فقد التزم حزب البعث في نظامه الداخلي وسياسته العامة باحترام كل الأديان والطوائف والقوميات، لكنه كان بالمرصاد لمن يرفع السلاح الطائفي أو العنصري أو التجسسي ضد البلد أو رئيس النظام على وجه التحديد. النظام السابق مسؤول عن انهيار العراق، والنظام الحالي هو الأسوأ والأكثر سواداً في تاريخ العراق منذ الغزو المغولي.

مشاركة :