تشكيلي سوري يرسم شخوصه بألوان ضبابية بقلم: ميموزا العراوي

  • 2/3/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تشكيلي سوري يرسم شخوصه بألوان ضبابية هواجس، هو عنوان المعرض الذي تقدمه صالة آرت أون 56 ستريت البيروتية، وتضمّ أعمالا للفنان السوري غسان النعنع الذي شارك في معارض بلندن وروسيا وفرنسا وقطر، إلى جانب المعارض الفردية التي أقامها في بلده سوريا قبل الحرب. العربميموزا العراوي [نُشرفي2017/02/03، العدد: 10532، ص(17)] أجواء ضبابية وصوفية بيروت- أول ما يلفت النظر في معرض الفنان السوري غسان النعنع المعنون بـ”هواجس” والذي يعرض حاليا في صالة “آرت أون 56 ستريت” البيروتية، هو التنافر القوي ما بين أعماله وما يقوله عنها. يصرح الفنان السوري بأن ذاكرته البصرية شديدة التأثر بما شاهده من أعمال لفنانين غربيين معروفين من أمثال بيكاسو وميرو وغويا وبوتيتشللي، غير أن قمة التعارض في ما بين القول والعمل يظهر حينما أعلن بأنه “متأثر بفن بروغل وفن بوش”، وهما فنانان رسما البشر في لوحاتهما كالصراصير الملعونة بالفقر والمرض والجهل، والمنغمسة في الملذات الأرضية المُصورة، وكأنها أوبئة سلخت عنهم إنسانيتهم وتميزهم عن باقي كائنات الأرض. القول والفعل يبدو لأول وهلة أن هذا التأثر المزعوم بهذين الفنانين يخالف بشكل عميق ما رسمه الفنان في لوحاته المسكونة بأجواء ضبابية وحسية/صوفية في الآن ذاته. ربما من خلال هذا الإحساس المؤقت بالتناقض سيتمكن مُشاهد أعمال غسان النعنع من أن يدرك، ليس أن الفنان يقول ما لا يفعل، بل يدرك بشكل أعمق الجانب المفصلي من حقيقة عملية التأثر المعقدة التي يختبرها أيّ فنان مُبدع. هدوء منقطع النظير يسكن شخوص لوحات النعنع التي تحللت في بعضها البعض، وهي في عز انشغالها بحدث غامض ما عملية قوامها تلقي الفنان وهضمه للمُشاهدات المُنفرة والمُستساغة على السواء، نجاح تلك العملية يترتب عنها إرهاق “جميل”، إذا صحّ التعبير، غالبا ما ينبثق عنه عمل فنيّ لافت، عملُ قطعِ الحبل مع المؤثرات على أنواعها ليسير وحيدا على أرض الواقع الشائك والغامض. أعمال الفنان دون استثناء يمكن وصفها بالبخارية، فثمة رطوبة معتدلة الحرارة ترشح من دواخل المشاهد المصورة لتصل إلى سطح اللوحات على شكل ذرات شبه مجهرية متلونة بمشاعر شخوصه. حتى تلك اللوحات التي لا يرسم فيها الفنان إلا شخصا واحدا، تبدو فيها الغمامة الرطبة ذات ثقل اعتاده شخص اللوحة، فبثت فيه حالة شعورية مرتبطة باللحظة ذاتها بعيدا عن عبثية التعلق بالماضي والتوق إلى المستقبل أو الخوف منه. قد نجد في أعمال الفنان القابعة تحت ضغط الرطوبة نوعا من البحث عن ذكريات، أو الرغبة في العثور عن حلول لأزمات غير محددة، ولكن هذا الانطباع لا يلبث أن يختفي حينما نبصر الهدوء المنقطع النظير، والذي يسكن شخوصه التي تحللت في بعضها البعض، وهي في عز قلقها أو انشغالها بحدث غامض ما. كل شخوص الفنان في جغرافيا يصعب تحديدها وفي زمن لا يمكن تصنيفه، لا صراع في لوحات الفنان ما بين العالم الظاهري والعالم الخيالي، هناك تجانس يفرض حضوره جليا. الأهم من ذلك هو انعدام قدرة المُشاهد على ترسيم الحدود الزمنية والجغرافية في اللوحات، انعدام تعيشه أيضا شخوص اللوحات، شخوص اعتادت أن تحتشد احتشاد ضوء الشمس في زخات المطر المنهمر ترقبا لانقشاع آخر، انقشاع لا يقل رطوبة عن الجوّ الشديد الغموض والمحيط بها. في بعض الأعمال تبدو هذه الرطوبة وقد تحولت إلى مطر فعلي بلل شعر الشخوص، فانسدلت ملتصقة بجبهاتها المنحنية حينا، والمنتصبة في وجه الفراغ حينا آخر. شهيق متوتر انعدام قدرة المُشاهد على ترسيم الحدود الزمنية والجغرافية في اللوحات، انعدام تعيشه أيضا شخوص اللوحات، شخوص اعتادت أن تحتشد احتشاد ضوء الشمس في زخات المطر ثمة موت كثير في اللوحات، ولكنه موت مُسجى بالنور ومُلطّف بصوفية وحميمية حلقات البشر من حوله، وهناك أيضا ما يشبه صعود أرواح إلى خالقها راضية مرضية وراضخة للقدر وللمشيئة الإلهية. ذلك ظاهر في شكل الأيادي التي تنغلق بعضها على البعض الآخر في سلام ورضوخ روحاني إلى ما لا يمكن تبديله أو إقصاؤه جذريا، ربما لذلك، ولوداعة نظرات العيون المُستنيرة بقناديل داخلية، لا يلبث الحزن طويلا في نفس المُشاهد ولا يمكث ضيفا ثقيلا في مآقي الشخوص الشاهدة عليه في قلب اللوحات. حتى جلسات النقاش التي يصورها الفنان، حيث تتحلّق مجموعة من البشر حول طاولة، غالبا ما يرسمها وكأنها من غيم أو من نور، ليست بجلسات تبحث عن حلول لخلافات قائمة، بقدر ما تريد تمكين أواصر التعاضد بين المنهمكين في تناول مواضيع شتى لسنا نحن كمشاهدين على علم بها، إلا بقدر ما يمكننا تخيلها وتصورها على النحو الذي نريده. الأعمال تحيل إلى كيفية التنفس الصحيح الذي ينقسم إلى قسمين متتاليين، دخول الهواء إلى الصدر عن طريق الأنف ويُسمى بالشهيق، وخروج الهواء ويُسمى بالزفير، غير أن هذه التقنية الصحية لا تنطبق على الفنان غسان النعنع في طريقة استيعابه للتأثيرات ومن ثم تقديمه لأعماله. يحلو لنا أن نتصور الفنان وهو يدخل إلى صقيع وبياض قماش اللوحات، يتحرك بحذر يرافقه شهيق متوتر من الفم، لا يأبه بصحية التنشق من الأنف، لكل ما اختبره وفكر فيه وشعر به. شهيق يليه زفير حار ورطب بالمقارنة مع برودة الحيز التشكيلي الخام الذي دخل إليه، شهيق تشكلت، كنتيجة حتمية له، بخارية لوحاته ورطوبة الشخوص المتجمهرة في جغرافيتها المفتوحة على شتى أنواع التأويل. :: اقرأ أيضاً ناقد تونسي يغامر في قراءة أشعار الحب المصرية ونشيد الإنشاد هل ترتقي الترجمة بالنص أم تحوله إلى رماد فكر وفن وتكنولوجيا في مهرجان تاء الشباب البحريني شعراء وضيوف عرب وعراقيون في مربد البصرة

مشاركة :