نهاد الحديثي استيقظ العالم كله داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها على عنصرية دونالد ترامب التي تمثلت، أول ما تمثلت، في قراراته السريعة، بحظر دخول مواطني بعض الدول الإسلامية إلى الأراضي الأميركية بأي مبرّر. مظاهراتٌ في كل مكان في أميركا تقريبا، ونجوم سينمائيون ورياضيون، يتسابقون في الإدلاء بتصريحات شجب واستنكار وتنديد بسياسة الرئيس الأميركي الجديد تجاه المهاجرين واللاجئين من المسلمين. الأذان يصدح في كنيسةٍ، وتتعالى صيحات الترحيب، استقبالا لكل من يهبط من الطائرة على الأراضي الأميركية بمظهر إسلامي، ولم يعد الحجاب مثار سخريةٍ، ولا توجس من هؤلاء الذين ظهروا ليصبحوا في نظر الإعلام الأميركي هم الأغلبية. فجاة، اكتشف هذا العالم أن ترامب عنصري، وأن أحدا لا يوافقه على سياساته وقراراته. ولا ندري، والحال كهذا، من الذي انتخب ترامب، وأوصله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض أربع سنوات، وربما ثمان. هل أتى ترامب من الفراغ؟ هل قاد دبابةً متوجها إلى هيئة الإذاعة والتلفزيون، ليعلن البيان رقم واحد؟ هل انقلب عسكريا أو مدنيا على سلفه أوباما، وأدخله إلى السجن، قبل أن يحتل كرسيه في قيادة البلاد وسياسة العباد؟ هل هبط من المجهول، مثلا، لكي يتذرع الذين انتخبوه أنهم لم يكونوا يعرفونه، وإنما أرادوا التغيير وحسب، وأنهم لم يكونوا ليتصوروا أن رجلا بمثل هذه العقلية يمكن أن يحكم أميركا؟ هل تمخض العدم فولد رئيسا أحمق اسمه ترامب، فوجد الناس أنفسهم وجها لوجه أمامه حاكما بأمره، في بلد يتشدق بديمقراطيته وتعدّديته وليبراليته، وحفاوته بالحريات على أنواعها وأشكالها؟ لم يحدث هذا كله بالطبع، فترامب ولد وفي يده ميكرفون، وأمامه عدسة كاميرا، ولا يكاد يسبقه رئيس أميركي بشهرته قبل ترشحه. ثم إن الرجل لا ينافسه أحد من الرؤساء والمرشحين السابقين، بمقدار صدقه وشفافيته وصراحته مع الناس، في كل مقابلاته وتصريحاته قبل ترشحه لانتخابات الحزب الجمهوري، وفي أثنائه وبعده، ثم الرئاسة. وبالتالي، لا معنى للحجج التي انتشرت خلال الأسبوع الأول من رئاسته بين شرائح مختلفة ممن انتخبوه فعلا بأنهم لم يكونوا يعرفونه إلى هذا الحد. وبالتالي أيضا، لا يمكننا رصد أماني الناس المذهولين مما يحدث هذه الأيام، باعتبارها زوبعةً في فنجان، سرعان ما تهدأ، بعد أن تستقر الأمور لترامب، فأموره مستقرة فعلا، وهو إنما يطبق حرفيا برنامجه الذي كان يروّج بعضهم، بأنه مجرد برنامج انتخابي مؤقت، ستذروه رياح النتائج، وتأتي مؤسسة الحكم الخالدة، منذ نشأة الولايات المتحدة الأميركية لتحكم على طريقتها الثابتة، وبأسلوبها الذي لا يتغير إلا شكليا، وخصوصا في القضايا الخارجية الكبرى، فمن الواضح أن حسابات الحقل تطابقت مع حسابات البيدر، على طاولة دونالد ترامب. وبالتالي، إنما يحكم وفقا لرغبات ناخبيه الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض، رغماً عن أنف نجوم هوليوود وأساطين الإعلام الأميركي كله تقريبا، ولا معنى للصدمة المفتعلة التي يعيشها العالم هذه الأيام. تبدو الأمور منطقية وطبيعية جداً، وهي نتائج مقدمات كثيرة يعرفها الأميركيون، كما يعرفها العالم كله، بعيدا عن بهرجة الإعلام، وتشوقه لهدفٍ مسلٍّ جديد، يملأ بحكاياته، الطريفة والغريبة إلى حد ما، ساعات البث التي أصابها الركود والخمول، ولم تعد أخبار الحروب والتفجيرات تعني لها شيئا، بعد أن فقدت إثارتها بحكم كثرتها، واعتياد المشاهدين عليها في كل مكان أمام الشاشات وخلفها. نعم نجح دونالد ترامب برئاسة أميركا، بعد أن طرح شعارات ربما هي الأكثر عنصرية وتطرفاً، وقام بعد أن استلم الرئاسة بتطبيق أفكارٍ عديدة طرحها، ومنها منع دخول رعايا بلدان عربية تحت حجة الإرهاب، والإسلام المتطرّف، كما أنه يهدد بمعاقبة دول على دعمها الإرهاب. كان الإرهاب وسيلة السياسة الأميركية للتدخل العسكري في بلدان العالم، وها هو يصبح وسيلة عقاب وابتزاز، وإعلاء من أسوار العنصرية. وجوهر الفكرة التي جرى تعميمها منذ نهاية الحرب الباردة، والميل الأميركي إلى التدخل العسكري في العالم، يتمثّل في أن الإسلام منتجٌ للعنف والإرهاب. وعلى أساس ذلك، باتت البلدان الإسلامية مستباحة، وأصبح المسلمون متهمين. وتحت هذه الحجة، جرى احتلال أفغانستان والعراق، وإقامة القواعد العسكرية في مناطق عديدة. ومورس التدمير الشامل للعراق. وبحجتها تمارس الآن عنصرية فظيعة. مجتمعاتنا متخلفة، نعم. ولا يزال الوعي التقليدي منتشراً، بالتأكيد. لكن سبب ذلك هو، بالأساس، السيطرة الاستعمارية، والهيمنة الإمبريالية، حيث كان مطلوباً أن تكون هذه البلدان سوقاً بلا إنتاج وحداثة. وقد واجهت الإمبريالية الدول التي حاولت تحقيق التقدم، وهزمتها. بالتالي، ليس استمرار البنى التقليدية نتيجة عجز داخلي، بل أولاً نتيجة التأثير الإمبريالي، فقد فرضت أميركا الخصخصة وانهيار قوى الإنتاج، كما فرضت انهيار التعليم، وعمّمت النهب. وهذه كلها كانت تشكّل بيئة جرى استغلالها، لأنها كانت تنتج فئات مهمشة يمكن استغلالها في حرب مقدسة. يمكن أن تنتج البنى المهمشة بيئةً، لكنها لا تنتج تنظيمات وإرهاباً عالمياً. خلف هذا الإرهاب دول وأجهزة مخابرات. وقد أشار ترامب الى أن باراك أوباما وهيلاري كلينتون هما من صنع داعش، حيث كانت الصورة واضحة أن السياسة الأميركية تميل إلى تشجيع هذا التنظيم. بالتالي، فإن الفاعل هو أميركا، على الرغم من أن ترامب يعاقب الشعوب. وهنا العقدة التي تظهر واضحة، حيث إن الإرهاب صناعة أميركية أولاً، استغلتها دولٌ أخرى، لكنها تبقى أميركيةً أولاً، فقد عملت أميركا على بناء مجموعاتٍ أصولية إسلامية خلال الحرب الباردة كأداة بيدها ضد السوفييت. وهذا ما أنجزته في أفغانستان خلال ثمانينات القرن الماضي، فدرّبت وطوّرت قدرات آلاف الجهاديين. مستفيدة من الوهابية التي كانت تتعمم منذ سبعينات القرن الماضي، لمواجهة التيارات التحررية والثورية، ومن ثم من الانهيار الاقتصادي الذي أوجدته الخصخصة والانهيار التعليمي الذي رافق ذلك. ليكون الجهاد هو الخطر العالمي الذي خاضت الحروب بحجته، وفرضت سيطرتها العالمية، ووسّعت من وجودها العسكري واحتلالها. الإرهاب إذن هو صناعتها لتبرير كل دورها العالمي القائم على السيطرة والاحتلال. ولا زالت تستخدمه من أجل السيطرة والاحتلال. إنه العدو الوهمي الذي يبرّر كل سياساتها، ويسمح لها بالتدخل. وبهذا فـ الحرب العالمية على الإرهاب هي تحت شعار الإرهاب ضد الشعوب، ومن أجل السيطرة، هكذا بالضبط. وها إن ترامب يستغلّ ما صنعته أميركا من أجل تعميم العنصرية، والأحقاد ضد شعوب الشرق، ويسعى إلى أن يحمّل الدول كل الأعباء المالية التي وقعت على أميركا، وهي تحتل وتسيطر وتدمر، معتبراً أن أميركا تخوض الحرب ضد الإرهاب الذي أنتجته مجتمعات الشرق، على الرغم من أنه من نتاجها هي. ويشير ذلك كله إلى حاجة أميركا للنهب، وهي تغرق في أزمة اقتصادية عويصة، لا حلّ لها، حتى بعد أن أتت برئيس مغرق في تعصبه وانعزاليته، فقد باتت أميركا بحاجة إلى العالم لكي يصرف عليها. لهذا، تريد أن تخوض الحروب بجيوش الآخرين وفلوسهم، وتريد من الحروب السيطرة ونهب الآخرين. الإرهاب صناعة، وهو يستخدم في كل الاتجاهات، لتحقيق مصالح إمبريالية مأزومة، وتشارف على النهاية. نعم.. انتصر ترامب حتى الآن على كل العقبات التي حاولت عرقلته في طريقه إلى سدة حكم أقوى دولة في العالم، على الرغم من عنصريته أو بسببها.. ولعل هذا هو التعبير الأدق، فلا داعي للصدمة.. أيها العالم.
مشاركة :