إن أي ثقافة حيّة في العالم مهما كانت منعزلة، ستبدأ تدريجيًا بالتغيّر والتكيّف مع القوى الداخليّة والخارجيّة. وتركيبة المكوّن الثقافي بطبيعتها ميّالة نحو التحوّل المستمر والتبدّل من حالة إلى أخرى؛ لاتسامها بالديناميكيّة وقدرتها على احتواء الظروف المحيطة بها وفق آليّة صامتة تصنع التغيير دون أن تثير الضوضاء. ويرى منظرو الثقافة بأن التغير الثقافي يتشكّل في ثلاث حالات، الأولى تسهم في تغيّر قيمة ثقافية من موقف التأييد إلى الرفض، كحال ممارسة العبوديّة وسيادة مبدأ الرق التي كانت سائدة في قرون ماضية، وباتت في العصر الحديث أمرًا مستنكرًا ومدانًا وفق الأعراف والقوانين الدولية، والثانية خلق قيمة ثقافية جديدة لم تكن موجودة في السابق مثل ظهور برامج تكافح النشاطات الضارة بالبيئة والإنسان، وسن قوانين ضد التحرش الجسدي أو الزواج من القاصرات، والثالثة تكمن في الربط بين مفاهيم متعددة تنتمي إلى حقول معرفيّة مختلفة، كتأثير القضايا الاقتصاديّة في الشؤون السياسية والاجتماعية. وتواجه ثقافات المجتمعات البشريّة كافّة تغيرات نتيجة ضغوط مستجدة تتمثل في تغيّر المناخ وتحولات العولمة وزيادة معدلات الاستهلاك وارتفاع مستويات التلوث وامتداد الزحف العمراني، وتضاعف أعداد السكّان، وتفاقم التحديات الصحيّة، وغيرها من العوامل التي تجبر الثقافة على إعادة تقييم ذاتها ومبادئها ومعتقداتها لتبدو أكثر قدرة على التكيّف والتصدي لتلك الإشكالات الحديثة والمتطوّرة التي يستعصي على الثقافة بمنظورها التقليدي إيجاد حلول ناجحة لتجاوزها أو التعايش معها. نزعة الثقافة نحو التغيّر ليست اختياريّة، وإنما هي ضرورة حتميّة تفرضها طبيعة الحياة المدنيّة التي تزايدت وتيرة تحولاتها في الزمن الرقمي منذ أن ظهرت على العالم أجهزة الكومبيوتر وشبكات الإنترنت اللتين اسهمتا بقوّة في اتصال الجنس البشري ببعضه مهما تباعدت المسافات المكانيّة، وأوجد ذلك النوع من الاتصال مفاهيم ثقافيّة جديدة تتصل بالعولمة وحرية المعلومات، وتنشر قيمًا إنسانيّة جديدة تحارب الأفكار المتطرّفة المغذية للتمييز العنصري والطائفي والعرقي، وتؤسس لمبادئ تكفل للإنسان أياً كان حقوقه التي تحفظ كرامته الإنسانية. قد تختار ثقافة من الثقافات التأخر عن ركب التحوّل الثقافي بعض الوقت دون أن تُدرك بأن تحولها سيأتي لا محالة، وأن استمرارها على حالتها الانعزاليّة ليس سوى إجراء مؤقّت لا يمكنه الصمود طويلاً أمام رياح التغيير العاتية، التي تأتي كشرط وجودي لأي مجتمع بشري، لذا فإن المجتمعات المحافظة في أي بقعة من العالم سيشهد بالضرورة انفتاحًا غير مسبوق في الأعوام المقبلة؛ وحينها ستسعى إلى تقنين ذلك الانفتاح ليبدو أكثر ملاءمة لطبيعة تكوينها الاجتماعي، وسيكون خيار العزلة غير مطروح لعدم قدرته على توفير الحد الأدنى من التقدم البشري وفشله في الانسجام مع واقع العصر وتحولاته الجذريّة.
مشاركة :