يقول دونالد ترامب ببساطة ووضوح أنه ليس ضد التعذيب الذي استخــــدمه المحـــقـــــقون الأميركيون في كثير من الحالات، في معتقل غوانتانامو ومراكز التحقيق السرية حول العالم، كأسلوب الإيحاء بالغرق وسواه. ليس ضده طالما هو «فعّال» ويوصل المحققين إلى مبتغاهم، ساخراً ممن تُجرَح مشاعره. تعقيباً، تُولوِل المنظمات المعنية بالشأن، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر وهيئة القانونيين الدولية، والأمم المتحدة تدين... لا يهم، إذ يبدو ترامب في تصريحاته ومواقفه أقرب إلى الحقيقة والواقع، كاشفاً ما يجري فعلاً. ولعل في ذلك أحد أسرار شعبيته وتسامح الناس مع فظاعات أقواله، وابتذاله وتناقضاته. ويحدث الأمر نفسه حين يتكلم عن مشروعه لنهب نفط العراق. يضحك الناس ويصفقون له ويبدون في قمة التسلية. وحدهم بعض ممثلي»النخبة» التي يكرهها (هو وكل من يشبهه سياسياً وأيديولوجياً)، وهم هنا إعلاميون يجرون معه مقابلات (بمن فيهم مذيع من «فوكس نيوز» المقربة منه، ظهر مصدوماً ومحرجاً) يسألون بإلحاح عن كيفية القيام بذلك، ويدفعون بالمحاذير، ويبدو عليهم القلق حيال ما يمثله الأمر من انتهاك لسيادة العراق أو لحق الشعب العراقي، أو ما يبدو كسرقة. وهو يزجرهم، ويفعل خصوصاً بطريقة فاقعة مع مذيعة (امرأة وشابة!) يضيق بها ويقاطع كلامها ويكرر كلماته الثلاث حرفياً («نأخذ النفط وكفى») بحزم عدواني، بلا عناء تقديم أدنى شرح. ثم يسخر في خطبه من الحجج المُساقة ضده، ويُضحِك جمهوره. ويتكرر الحال مع موضوع الجدار الذي ينوي بناءه على الحدود مع المكسيك، مانحاً رئيسها، غير المناهض للولايات المتحدة، بل حليفها، فرصة للسخرية منه («سننشئ أنفاقاً» تحت الحائط، أجابه!)، مما يُظهِر مستوى آخر من «الواقع» الجاري يتعلق بالخروج عن الأصول المتبعة وعن الأعراف الديبلوماسية، وتسييد المسخرة كشيء معتاد. وكل ذلك يتجاوز تماماً ما لمسته هنه أرنت في «عادية الشر» بخصوص النازيين وما ارتكبوه وقبول أفعالهم في محيطها، وما ألح عليه أديب هو بريمو ليفي، في «لو كان إنساناً»، على رغم أهمية تلك «العادية» القصوى في نزع الاستثنائية عن الشر، وتلمسه في ملامح الآخرين وسلوكياتهم (يقول ليفي: «لهم نفس وجوهنا»). هنا ينزل البليونير الرئيس إلى مكانة رجل شارع وطريقة كلامه وتفكيره حين تكون مجردة من القيم الأخلاقية الضابطة، رجل عادي وليس من «النخبة» (مجدداً!) لا ينمِّق ما يفكر به ويشعره. وفي هذا، فترامب أكثر تطابقاً مع «الحداثة» كما هي قائمة، مقارنة بسائر المسؤولين الأميركان والأوروبيين، بمن فيهم من يشاطرونه قناعاته. وهو لا يكتفي بالكلام، بل يثير بلبلة عظيمة بشأن المهاجرين والممنوعين من الدخول إلى الولايات المتحدة (بمن فيهم حملة بطاقات الإقامة الخضراء)، ويشتبك مع القضاة ويقيل وزيرة لا تطيع ويعطي أمراً للشرطة بعدم تنفيذ قرارات المحكمة العليا الخ... في ما يبدو قلباً رأساً على عقب ليس فحسب للياقات المتعارف عليها، بل للمؤسسات وتراتبيتها وللقانون. والعجيب أن تخضع سائر الدول لهذا بكل براغماتية، فيفرح وزير الخارجية الفرنسي لأنه تلقى تأكيداً بإعفاء مزدوجي الجنسية (فرنسيين أصولهم من بلدان «إسلامية») من إجراء المنع، كما تطبِّق الإجراء الترمبي، بلا سؤال ولا مقاومة، شركات الطيران وسلطات المطارات في العالم (بمن فيها شركات وسلطات تلك البلدان «الإسلامية»). وفي فرنسا التي ارتكزت بنيتها الحديثة على تقاليد دولتية صارمة، حيث اعتبارات قيمية عليا تحيط بمواضيع مثل «المال العام» ونزاهة السياسيين، بدا زمن ساركوزي استثناء على القاعدة، التي إن خُرِقت فبتكتم شديد (كما كانت الحال مع شيراك الذي استُفظِع أن ينال هدايا ودعماً من جهات وأفراد يقدَّمون كأصدقائه). واليوم يبدو ساركوزي حملاً وديعاً مقارنة بفضائح السياسيين ورجال الأعمال البارزين، فصحَّ القول إنه لو جرى تجفيف كل ذلك لأمكن بخمس دقائق سد فجوة موازنة الضمان الصحي، العام والمجاني والعالي المستوى، الذي يستفيد منه كلُ الفرنسيين والمقيمين. فيون وغيره من السياسيين، وداسو وغيره من الاقتصاديين، يجادلون، ولا تبدو الشبهات المحيطة بهم محرجة لهم ولا سبباً لتراجعهم عن طموحاتهم، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. وهذا أيضاً يقلب رأساً على عقب تقاليد راسخة ومؤسسات مصاحِبة لها ونظريات عن الدولة و «أسس الجمهورية» بالغة التبلور، شكَّلت أساس العقلية الفرنسية الحديثة بل الفلسفة السياسية للنظام، كما يقلب قوانين حين يجري في نهاية المطاف الالتفاف عليها بشكلية. والأهم، أن هذه الحال لا تتسبب بحرج لقواعد هؤلاء ولا بثورة عارمة ضدهم. تغير العالم إذاً. الأفكار والنظريات والعادات والتقاليد تبدو كلها «متأخرة» عما هو عليه هذا العالم اليوم، وعن قواعد متَّبعة من دون إعلانها: هل لا تُعلَن لأنها «تمر» بلا حاجة لذلك وللبحث عن تبريرات تتجاوز اللحظة المباشرة وإدارة «الاستثناء»، وهو يتحول بأشكال مختلفة إلى دائم: هل لأن إعلانها ما زال يثير الصدمة بدليل ما يجري مع ترامب، هل لأنه لا «وقت» في ظل ما يقال له «الأزمة» وهي متعددة الجوانب، اقتصادية وأمنية واجتماعية؟ فحيال موجات الهجرة والإرهاب وانهيار العمل وإفقار الطبقة الوسطى الخ، تُتّخذ في بلدان المركز الرأسمالي على اختلافها، الإجراءات - السلوكيات بكل براغماتية، فيختلط اليمين بأقصى اليمين باليسار المؤسساتي، فيصعب في بلد كفرنسا التمييز في الخطابات والمواقف والمقترحات بين مانويل فالس (الحزب الاشتراكي) وفرنسوا فيون (الحزب الجمهوري: اليمين التقليدي) ومارين لوبن (الجبهة الوطنية الشعبوية شبه الفاشية). ... ما تلمَّسه بشكل مدهش عالم الاجتماع الفيلسوف زيغموند باومن حين تكلم عن «اختفاء المؤسسات الثابتة»، قائلاً إن مجتمعاً حديثاً يوصف بالـ «السائل» حين تكون الوضعيات التي يجد فيها الناس أنفسهم ويتصرفون في ظلها، متغيرةً بصورة دائمة وبسرعة، حتى مِنْ قَبل أن تتمكن طرائق سلوكهم من التحول إلى وقائع صلبة مستندة إلى إجراءات وعادات. ويتساءل: «كيف يتحمل أغلب الناس الجروح الاجتماعية التي تقع عليهم؟»، ويجيب: بسبب استمرار «دوغما اللاعدالة» المستندة إلى فرضيات مسبقة تُعامَل كبديهيات، كالنمو الاقتصادي كجواب وحيد ممكن للاجتماع البشري، وزيادة الاستهلاك كوسيلة للوصول إلى السعادة، والطابع «الطبيعي» للتفاوتات باعتبارها نتاج رفع المستحقين وهبوط غير المستحقين... مسجلاً إلحاح الحاجة لمنظومة أخرى من القيم الاجتماعية.
مشاركة :