النسخة: الورقية - سعودي في بحثه عن علاقة القطاع الخاص بالدول في الخليج، ينقل ستيفن هيرتوك عن بعض رجال الأعمال السعوديين عداءهم الكبير للعمالة المحلية، معتبرين إياها عبئاً كبيراً يصل عند أحدهم إلى حد وصفها بأنها نوع من الضريبة الإجبارية للقيام بالعمل في السعودية. بالمقابل، نجد أن صورة رجال الأعمال هؤلاء لدى الباحثين عن عمل سلبية غالباً، باعتبارهم يقومون بالإثراء من دون إنتاج حقيقي، ويفضلون العمالة الأجنبية، ويعتمدون على الدولة... . هذه الرؤية العدائية المتفشية عند كل طرف ضد الآخر تعود - في اعتقادي- إلى جذور تاريخية في التركيبة الهيكلية للسوق السعودية. فمنذ أوائل الستينات تقريباً، مع بدايات تعاظم المداخيل النفطية للدولة، انعدمت تقريباً كل المحفزات نحو تأهيل وتشجيع نمو قطاع خاص منتج. على العكس من ذلك، تم تسهيل انتقال العمالة الأجنبية الرخيصة السعر، القليلة الكفاءة، لتعمل في القطاع الخاص تحت أنظمة صُممت لتسهل من سيطرة رجال الأعمال المحليين على هذه العمالة. هذه الحال جعلت من الحافز نحو اعتماد أنظمة إنتاج تقنية ومعقدة متدنياً، لكون البديل اليدوي الرخيص والمُسيطَر عليه متوافراً بكثافة. كما أن انعدام الضرائب وتقديم الدعم الحكومي لبعض القطاعات الاستثمارية جعلا القطاع الخاص معتمداً كثيراً في نموه على الإنفاق الحكومي المباشر وغير المباشر، إذ إنه حتى القطاعات التي يتركز الطلب فيها على المستهلكين نجد أن الطلب فيها يتأثر في شكل كبير بالإنفاق الحكومي، كون غالبية هؤلاء المستهلكين يتوافرون على سيولتهم المادية على هيئة رواتب حكومية، إذ إن قوّة الطلب التي تخلقها العمالة الأجنبية في القطاع الخاص لا تكاد تذكر. في مقابل قطاع خاص معتمد بصورة كبيرة في حجمه وإنتاجه على الدولة والعمالة الأجنبية، نجد أن اليد العاملة المحلية منذ الستينات تقريباً تركزت في القطاع العام الآخذ بالتضخم. فهذا القطاع العام ذو ساعات العمل الأقل من القطاع الخاص، والرواتب والأمان الوظيفي الأعلى، كان الوجهة الرئيسة للعمل بالنسبة إلى السعوديين لما يمثله من بيئة عمل مناقضة في شكل كامل لبيئة عمل القطاع القائمة على استغلال العمال الأجانب. ولأن الوظيفة في القطاع العام لم تكن تعتمد الربحيّة معياراً للتوظيف، بقدر ما كانت بشكل ما أداة لتوزيع الثروة، فإن التوظيف في هذه القطاع لم يكن يعتمد على الكفاءة والإنتاجية، ومن ثم لم يكن هناك حافز نحو التعلم واكتساب الخبرات من أجل تحصيل العمل. فحتى مطلع التسعينات كان كل من رجال الأعمال واليد العاملة المحلية يعيشون في عالمين مختلفين، يعتمد كل منهما على الدولة كلياً من دون تقديم مقابل إنتاجي ذي شأن، إلا أن مجموعة من العوامل، مثل انخفاض أسعار النفط، وتزايد النمو السكاني، جعلت الجدار الفاصل بين هذين العالمين ينهار. فمنذ التسعينات، ثم بشكل مكثف وكبير في العقد الماضي، حدثت تغيرات في القطاع الخاص. أول هذه التغيرات أن حجمه تضخم كنتيجة مباشرة، إما لعملية خصخصة أو فتح المجال للقطاع الخاص بالدخول في مجالات كانت سابقاً محتكرة حكومياً. فقطاعات كالتعليم - بشقيه العام والعالي- والطيران والاتصالات والصحة، التي كانت سابقاً حكومية أصبحت إما مخصخصة أو مختلطة في شكل كبير. وعلى العكس من كثير من الدول النامية، التي كانت الشركات المتعددة الجنسيات هي المستفيدة من عمليات الخصخصة، نجد في السعودية أن المستفيد الأكبر من هذه العملية هم طبقة رجال الأعمال المحلية. وعلى رغم ارتهان القطاع الخاص على الدولة على المدى البعيد، إلا أن هذا النمو في الحجم جعله على المدى القصير معتمداً كثيراً على المستهلكين، وهو ما يحقق له نوعاً من الاستقلال النسبي من الدولة، لكنه فتح أحد الباب المواجهة المباشرة بين المواطنين والقطاع الخاص. الباب الآخر بين الجهتين، والذي لم يفتح تلقائياً، بل عبر سياسات حكومية واجهت معارضة شديدة من القطاع الخاص، كان باب التوظيف في القطاع الخاص. فزيادة البطالة الناتجة من عدم قدرة استيعاب القطاع العام للأجيال الجديدة دفعت الحكومة إلى التوجه إلى القطاع الخاص، من أجل إعادة هيكلته، ليكون مؤهلاً لاستقبال اليد العاملة الوطنية التي لن تكون - بطبيعة الحال - عرضة للاستغلال والسيطرة وغيرها من الأعراف التي اعتاد عليها القطاع الخاص لعقود. فنحن أمام قطاع خاص غير مستقل، وبإنتاجية لا تؤثر في الاقتصاد المحلي، ويعتمد في أرباحه ونموه كثيراً على استغلال العمالة الرخيصة والاعتماد على الإنفاق والتسهيلات الحكومية، في مقابل يد عاملة وطنية لم تعد تجد لها مكاناً في القطاع العام وتريد وظائف بمستواها نفسه. هذا التناقض حُلّ، بعد أعوام عدة من الصراع في العقد الماضي، عبر إنفاذ وإقرار برنامج السعودة بمستويات عالية. إلا أن برنامج السعودة هذا، على المدى البعيد قد يؤدي إلى إنهاء حالة الخصومة هذه، بإحداث تغيرات هيكلية: تقليل التوظيف في القطاع العام. خلق طبقة عاملة محليّة. زيادة استقلال القطاع الخاص عن الحكومة باعتماده يد عاملة وطنية وتوجهه نحو الإنتاج التقني بديلاً غير مكلف لارتفاع أسعار اليد العاملة (أي تحوله إلى نوع من البروجوازية ذات التأثير السياسي والاقتصادي). هذه التغيرات قد تؤدي في المستقبل القريب إلى تحول خصماء الأمس إلى رفاق الغد. يقول الفيلسوف هيغل: «كما أن العقل الكلي قويّ، فهو ماكر أيضاً؛ ويكمن مكره في الأعمال الوسيطة، التي على رغم اتخاذها مجراها نحو تحقيق أهدافها الخاصة من دون تدخل مباشر منه، يحقق أهدافه من خلالها». * كاتب سعودي. sultaan.alamer@gmail.com
مشاركة :