«عطيل» على طريقة يوتكفيتش: الصراع بين الخير والشر

  • 2/8/2017
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

من المعروف عادة أن الفيلم الذي حققه الأميركي اورسون ويلز اقتباساً من مسرحية شكسبير الكبرى «عطيل»، هو العمل الشكسبيري الأشهر في تاريخ السينما، علماً بأنه حين فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان» السينمائي عام 1952، نُسب الفوز الى المغرب لأن الفيلم صوّر هناك، وكان ثمة مشاكل قضائية تتعلق بانتسابه الجغرافي لأوروبا. المهم أن هذا الفيلم اعتبر دائماً تحفة سينمائية في مجال نقل عمل شكسبيري الى الشاشة. لكن الحقيقة تقول أن ثمة فيلماً سينمائياً آخر اقتبس عن المسرحية نفسها، بعد فيلم ويلز بأربع سنوات، يُجمِع عدد كبير من نقاد السينما ومؤرخيها على أنه أكثر عمقاً وإنسانية من فيلم ويلز. وهذا الفيلم هو ذاك الذي حققه المخرج السوفياتي سيرغاي يوتكفيتش في العام 1956، أي بمجرد ما أتاح له الانفتاح الذي أدخله خروتشيف على السياسة في موسكو، أن يأخذ شيئاً من الحرية في التأويل الذي كان محرماً أيام ستالين، وحتى في مجال الإبداع والعواطف الإنسانية. > والحقيقة أن يوتكفيتش ظل يحمل مشروعه طوال نحو عشرين عاماً قبل ذلك، ساعياً الى تحقيقه، وذلك رغم معرفته بأن من الصعب إحصاء الأفلام التي حققت حول العالم في اقتباس، مباشر أو غير مباشر، عن تلك المسرحية نفسها. ولئن كان السؤال الأساس حين يتعلق الأمر بمشروع سبق لآخرين أن حققوه، هو: ما الجديد في الإقدام على معاودة الكرّة؟ فإن جواب يوتكفيتش كان بسيطاً وحاسماً: بالنسبة اليه ليس من المنطقي الاكتفاء بالقول أن «عطيل» مسرحية تتحدث عن الغيرة. وإن هذه الغيرة هي المحرك الأساس الذي دفع عطيل الى فعل ما فعل، مدمراً حبيبته وحياته هو أيضاً. ولسوف نتوقف عند هذا الأمر بعد سطور. أما هنا فنعود الى صياغة يوتكفيتش مشروعه، هو الذي كتب في يومياته قبل سنوات طويلة من ولادة المشروع: «إن الفوضى والخواء هما ما يرعبان عطيل. فشكسبير انما يصور لنا هنا صعود إنسان شغوف ونزيه، إنسان يبحث خلال نضاله عن الطريق للوصول الى مثال أعلى جديد، هو في الوقت نفسه المثال الأعلى لدى شكسبير أيضاً. إنه يعيش شغفه عبر نشاط فعال وقيّم يمارسه، ويتوجّه إلى غرام دزدمونة. أما فقدان هذا الغرام فيشكل بالنسبة الى عطيل، انهياره الشامل ونهاية إيمانه بالقيم الإنسانية. ومن هنا فإن مأساة بطلنا، انما تكمن في فقدانه الإيمان، وإحساسه بأن ثقته قد غُدر بها». > لقد كان من الواضح أن يوتكفيتش قد صاغ شخصية عطيل، على النقيض مما فسرها به بوشكين الذي رأى أن الغيرة هي الدافع. ومن هنا ذلك النجاح النقدي، والجماهيري في شتى أنحاء العالم الذي كان من نصيب الفيلم الذي كتب الناقد السينمائي جورج سادول يقول عنه: «لو أن شكسبير عاد الى الحياة وشاهد التفسير الذي اقترحه يوتكفيتش لمسرحيته «عطيل» لعاد الى قبره مرتاحاً إذ وجد حقاً من فهم العمق الأساسي لهذا العمل. اذ بينما فسر الجميع هذه المسرحية على أنها مأساة غيرة، تميز يوتكفيتش عنهم بتفسيرها على أنها صراع خالد ومستمر بين الخير والشر، حيث يمثل اياغو الشر المطلق والقوي، فيما يمثل عطيل الخير المطلق انما المتردد». > لقد اعتبر سادول «عطيل» يوتكفيتش واحداً من أجمل الاقتباسات التي حققت عن شكسبير، بحيث قيل دائماً انه لو لم يحقق هذا المخرج سوى هذا الفيلم لكان حسبه أن يعيش على مجده حتى آخر أيامه. لكن يوتكفيتش حقق أفلاماً أخرى بالطبع، كان معظمها علامات أساسية في سينما سوفياتية لم يخل تاريخها من معلمين كبار وعلامات أساسية. وفي جميع الحالات كان يوتكفيتش مجدِداً، لا سيما حين قدم أول فيلم عن ليني نظر اليه نظرة حميمة وإنسانية، بدلاً من الاكتفاء بتقديم مظهره البطولي وآيات كفاحه كبطل إيجابي كما فعلت الأفلام السوفياتية التي تحدثت عن حياة الزعيم الشيوعي. > كان سيرج يوتكفيتش منذ بداياته متمرداً على القوالب الجامدة، ومن هنا كان عليه، على الدوام، أن يخوض المعارك اثر المعارك في سبيل فرض آرائه ونظرته الى السينما. صحيح أنه كان يحدث له أن يقدم التنازلات لسلطات ثقافية - سياسية كانت كثيرة التطلب، تريد من الفن أن يكون في خدمة الدولة والحزب، لكنه وسط التنازلات عرف كيف يرفد سينما بلاده بأعمال حقق بعضها للسينما السوفياتية مكانة عالمية. وفي هذا الإطار، لعل خير ما يوصف به يوتكفيتش انه كان خصباً متنوعاً، تجاور لديه ماياكوفسكي مع لينين، وشكسبير مع تشيكوف، كما تجاورت المدن، انقرة وبراغ، باريس وموسكو، وعرف كيف ينهل من التاريخ ومن الزمن الحاضر. وبعد رحيل ستالين غدا من أوائل السينمائيين الذين انفتحوا على تجربة خروتشوف لدرجة انه اختير لمرافقته في رحلته الباريسية الشهيرة، حيث حقق يوتكفيتش فيلماً عن تلك الرحلة التي خلالها استبدت الدهشة بالزعيم السوفياتي حين اكتشف أن السينمائي الذي يرافقه كان أكثر شهرة منه لدى الأوساط الفنية والثقافية الفرنسية. > وُلد سيرج يوتكفيتش العام 1904 في مدينة سانت بطرسبرغ، وكان لا يزال يافعاً حين فاجأته الثورة البولشفية فاستبدت به الحماسة لها، وانضم اليها من فوره مقتنعاً بأنها تحمل الحرية الى البلد كما الى الفن الذي كان قد اختاره طريقاً لحياته. وهكذا انخرط في الفن الثوري وهو ابن السادسة عشرة، وكان في الثامنة عشرة حين أسس مع السينمائيين الشابين كوزنتسيف وتراوبرغ، تجمعاً سينمائياً ثورياً قيض له أن يلعب دوراً كبيراً في نهضة الفنون السوفياتية عامة وهو الذي عرف باسم «فيكس». > في بداياته عمل يوتكفيتش في تنفيذ الديكورات، ثم مساعداً لايزنشتاين فمخرجاً مسرحياً. أما عمله كمخرج سينمائي فقد بدأ في 1928 حين حقق أول أفلامه بعنوان «الدانتيلا» عن قصة أزعر أفّاق، تحول الى عامل في مصنع. ولقد أتاح له نجاح ذلك الفيلم أن يحقق فيلما تالياً هو «الحجاب الأسود» (1929) ليتبعه في 1931 بـ «جبال الذهب» الذي كان أول فيلم ناطق له، وفيه عالج من منظور سيكولوجي، سيظل عزيزاً عليه بعد ذلك، حكاية الفلاح الذي يصل الى المدينة ليصبح بروليتارياً وهو يعتقد بأن جبال الذهب هناك في انتظاره. وفي أفلامه التالية وحتى نهاية سنوات الثلاثين واصل يوتكفيتش تحقيقه أفلام تمتزج فيها الحكايات الواقعية مع التحليل السيكولوجي للمجتمع، مع شيء من خفة الظل، لا سيما في فيلم «رجل البندقية» (1938) الذي يتناول حياة لينين وشؤونه الخاصة. لقد كان لافتاً أن يقوم لينين في الفيلم بتصرفات تثير مرح المتفرجين وضحكهم، وتضفي عليه إنسانية أكيدة. وكان في وسع يوتكفيتش أن يواصل تلك الطريق لو لم يحلّ العام 1940 وتبدأ الصعوبات اذ يدعو ستالين المثقفين والمبدعين الى سلوك درب الجدية. > مع هذا، واصل مخرجنا في 1943 أسلوبه المجدد في فيلم «المغامرات الجديدة للجندي الشجاع شفايك». وكانت تلك هي الفترة التي بدأت فيها كاميرا يوتكفيتش بتخطي الحدود حيث حقق فيلماً عن براغ، ثم فيلماً عن فرنسا عبّر فيه عن حب كبير لهذا البلد. وهذا الترحال سيواصله يوتكفيتش حتى يصل الى ألبانيا في 1954 حين حقق فيلماً تاريخياً آخر بعنوان «اسكندر بيك». لكنه خلال ذلك كله كان لا يكفّ عن إعلان رغبته في تحقيق فيلم حر مقتبس عن «عطيل» شكسبير، وهو ما أتيح له في 1956 مع موجة التحرر الخروتشيفية، كان فيلمه الأكبر، وقد مثل دوره الرئيس بوندارتشوك وكتب موسيقاه آرام خاتشادوريان. وبعد عطيل، كان دور لينين حيث حقق يوتكفيتش فيلماً جديداً عنه بعنوان «ثلاث حكايات عن لينين». وهو سيتبعه بعد ذلك بفيلم آخر عنوانه «لينين في بولندا». > وبالتقاطع مع عمله عن لينين، حقق يوتكفيتش في أواخر سنواته فيلمين ارتبطا باسم ماياكوفسكي، أولهما فيلم رسوم متحركة عن نص «الحمامات» (1962). والثاني بعنوان «ماياكوفسكي يضحك» (1975). وكان هذا واحداً من آخر أعماله، هو الذي مات بعد ذلك في العام (1985) مكللاً بالمجد كواحد من الذين ربطوا السينما بالحريّة وبحريّة التعبير رغم الضغوطات. «عطيل» وفق يوتكفيتش: إنها حكاية الصراع بين الخير والشر.

مشاركة :