استمع د. يوسف الحسن باستثناءات نادرة، يتمتع كثيرون من نخبنا العربية المعاصرة، بعقلية لا ترى من المشهد أبعد من سطحه. توقعاتها مبالغ فيها، وتفكيرها السياسي رغائبي بامتياز. ها نحن اليوم، نتلهى بتهديدات ترامب، وتغريداته المتناقضة، بَعضُنَا يراهن على تصريحاته الحربية، لِلَجْم الشغف الإيراني بالتوسع والنفوذ، وبامتلاك قدرات القوة، والتدخل في شؤون الغير. نتسلى بما بشَّـر به أحد مستشاريه، بحربين كبيرتين مع (صين توسعية) وأخرى في الشرق الأوسط مع (إسلام توسعي). وأبعد من ذلك، يتحمّس كثيرون، لصراعات ملتبسة، ومتناقضة المردود، ولسياسات تتحدث عن (حافة الهاوية) و(لعب بالنار).. وأين؟ في الشرق الأوسط، في ملاعبنا، التي تعاني فائض الصراعات، ومن حصاد تدميري للحاضر والمستقبل. تلهّينا في قضايا أمريكية داخلية شائكة، لها معطياتها وآليات معالجتها، ضرائب، رعاية صحية، تقييد هجرة، بناء جُدُر، سياسات حمائية، شعبوية.. الخ. ونسينا القيام بواجباتنا في إعادة بناء البيت الوطني، والبيت القومي (تنموياً، ونسيجاً مجتمعياً، (home work) المنزلية وتجديداً لخطابنا الديني، وهوية وانتماءً ومواطنة)، تلهّينا أيضاً، مع الغضب، في مسألة حظر السفر والهجرة لمسلمين، ونسينا أن المئات من المؤتمرات والكتب والأبحاث، قد نشرناها، على مدى نصف قرن، تتحدث عن مخاطر (نزيف الأدمغة) من عالمنا العربي والعالم الثالث، إلى الغرب، لِما لهذا النزيف من أكلاف وخسائر وطنية وعلمية. نسينا أن نسبة خريجي الجامعات العربية، الذين يهاجرون إلى الخارج (أمريكا وأوروبا) تجاوزت 25 في المئة من إجمالي الخريجين، ومن المتوقع أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت كثيراً، في ظل تداعيات ما سُمّي بـالربيع العربي، ولا أدري لماذا لا نقلق من هجرات المواهب والشباب، وهي رأسمال لا يعوض. لماذا ننزعج، حينما يحذّر ترامب، من تداعيات وحش العولمة، ويدعو لسياسات حمائية، على الطريقة الأمريكية، لقد سبقه زعماء في الحزب الديمقراطي، وتجمعات نقابية ومجتمع مدني قبل نحو عقدين، وقالوا (إن العولمة غير عادلة)، وها هي أوروبا نفسها، تبدي ردود فعل مناهضة لبعض جوانب العولمة، وتتشدد في حريات التنقل والشراكة والتجارة، وتدعو لإحياء الهويات الوطنية، ودور الدولة القومية. ومن أسف، أننا لم ننشغل في فهم هذه الانقلابات السياسية والاقتصادية في أوروبا، وإدراك أبعاد الظاهرة المسماة (القبلية الأوروبية الحديثة)، وبخاصة في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا.. إلخ. هل سنتأقلم مع عولمة متحوّلة؟ وهل سنكون على لائحة ضيوفها، أم على لائحة طعامها؟ أين تكمن مصلحتنا الوطنية والقومية؟ هل تكمن في دعم توجهات ترامب ومزاجيته، وفي هذه الحالة، ما هي أوراق القوة والقدرة التي سنقدم بها أنفسنا؟ أم تكمن مصلحتنا في التفاعل بإيجابية مع النقد البنّاء الذي تبديه العقلانية الأوروبية، ومع مواقف مبدئية وإنسانية، وإدراك حقيقي للنظام الدستوري والسياسي للدولة العميقة الأمريكية؟ إن مصلحتنا الوطنية والقومية، في التصالح مع أنفسنا، واتخاذ القرارات اللازمة لوقف النزيف العربي، ومعالجة الخلل، وإغلاق الشقوق التي يتسرّب منها التدخّل الخارجي. ولنتذكر، أنه إذا كانت سياسات أوباما مع الجارة إيران، سياسة مهادنة ومصالح، فإن سياسة ترامب، وفقاً لذهنيته، لن تبتعد كثيراً عن المصالح واللعب تحت الطاولة، والكواليس عنده، وعند (تجار البازار) حبالى، لا ندري ما تلد. لنتذكر أيضاً، أن في العراق اليوم أكثر من 15 ألف عسكري ومدني أمريكي، وقواعد عسكرية تشرف على الطرق الواصلة ما بين إيران وسوريا. وفي العراق أيضاً، لإيران ميليشيات وأحزاب ومواقع قابضة على القرار العراقي، ومصالح أمريكية وإيرانية متبادلة، ورقص مشترك، لا يملك أن يعطّله من يسكن البيت الأبيض، لكن ذلك لا يمنعهما، من إبقاء الاستنفار السياسي والإعلامي، والمناورات وإطلاق بالونات الاختبار، والتجييش.. الخ. ولنتذكر أيضاً، أن المواطن الأمريكي اليوم، مشحون بالخوف والتوتر، ولا يخطر بباله سوى، إطلاق النار والقتل الجماعي، وتقول نشرة أمريكية (علماء الذرة) ومقرها شيكاغو، (نحن أقرب ما نكون إلى نهاية العالم، من أي وقت مضى) قبل ترامب، وقبل بوش الابن، راجت سيناريوهات حروب خمس (نووية وبيولوجية) قد تخوضها أمريكا، كانت مغامرات عسكرية متخيلة، لكنها أدّت إلى زيادة الإنفاق العسكري، وإحداث ثورة تكنولوجية في الجيوش الأمريكية، سيبقى مفهوم القوة في العقل الأمريكي، وفي خطابات الساسة، لا أحد سيتعب من لعبة القوة، وهي تتنافس مع غيرها، ليس فقط على مناطق النفوذ، والمواقع الجيوسياسية، بل أيضاً في كيفية تجنّب استخدامات القوة. مرحلة صعبة، اختلط فيها حابل التمني، بنابل الثرثرة، وتسود فيها حالة من الاضطراب والفوضوية، وتراكم أزمات معقّدة، وصوت التنبيه إلى الأزمات، أكثر أهمية من اللجوء للتمويه على حقيقة هذه الأزمات. نحن والعالم من حولنا، بحاجة ماسّة، إلى سياسات عقلانية، بعيدة عن النزعات السلطويّة، وحافة الهاوية، بحاجة إلى خيال جامح، لاأحصنة جامحة، وإلى التفكر بعقل نقدي بارد، لا بعقلية قابلة للاستفزاز السريع. yousefalhassan1@gmail.com
مشاركة :