لم تعد «الطبطبة» هي الإجابة. ولم تعدل جلسات المجاهرة والمقاصصة هي البداية. كما لم تعد رحلات اليوم الواحد ومحاولات الإضحاك المصطنع أو الترفيه خارج السياق قادرة على دعم العلاج والتخفيف عن كاهل المريضات. حتى الشارة «البمبي» (الزهرية) والندوة ذات التوجّه الوردي والجمع الغفير الملتف حول «البوفيه المفتوح»، لم تعد تطرح حلولاً حتى وإن كانت تجذب إعلاماً، وتضمن إنتشاراً لا ينافسه إلا إنتشار السرطان في أجساد المعنيات بكل ما سبق. «سبق أن ظهرت كضيفة في فقرة تلفزيونية عن مرضى السرطان. كما سبق أن وافقت على المشاركة في مؤتمر دولي عن سيدات قهرن السرطان. كما كتبت سلسلة مقالات عن تجربتي في اكتشاف المرض والتعامل معه ثم التعايش به. لكن كل ذلك تبخّر في الهواء حين اكتشفت أن رفيق الحياة الذي اقترنت به بعد قصة حب بدأت في المدرسة، تزوّج أخرى بعد مرضي بأسابيع معدودة. وفي المواجهة، نفى عن نفسه صفة الخيانة وأنكر تماماً اتهامات قلة الأصل، وانعدام الإنسانية، ودافع بقوله أنه استخدم حقه الشرعي لتحقيق حاجاته ولم يقصّر في حقوقي المادية يوماً». «يومها هزمني السرطان»! ن. م. مريضة بسرطان الثدي (42 سنة) الذي انتقل إلى أجزاء أخرى من جسدها بعد بحث شريكها عن حقوقه الشرعية مع زوجة جديدة، تصرّ على علاقة وثيقة بين هذا الانتشار وبين ما اقترفه الزوج في حقها. وعلى رغم قدرتها المادية على تحمّل كلفة العلاج والمتابعة مع الأطباء، إلا أن قدرتها النفسية خارت بعد المجاهرة والمكاشفة. كشفت الناشطة الحقوقية والتنموية المديرة التنفيذية لـ «مؤسسة كيان مصر للتنمية والتدريب» سحر شعبان عن فكر جديد وغير معتاد على التعامل مع مرض السرطان، لا سيما من منظور أنثوي، ولا تقول نسوياً. «كوني الأقوى! كوني سحر» عنوان المبادرة التي بدأتها شعبان وموجّهة إلى مريضات السرطان، لا سيما سرطان الثدي، والمحيطين بهن. تقول إنها من واقع عملها الأهلي والحقوقي والنسوي لاحظت زيادة كبيرة في حالات «هروب» أو «غياب» أو «هجر» الزوج لزوجته بعد اكتشاف إصابتها بالسرطان، لا سيما سرطان الثدي. وتضيف: «السبب على ما يبدو يتعلّق بشعور ينتاب مريضات بأن هذا النوع من السرطان يسلبهن أنوثتهن. كما أن العلاج الهرموني كثيراً ما يؤثّر سلباً عليهن في ما يتعلّق بالعلاقة الحميمية، ما يدفع بأزواج كثر إلى الاقتران بأخرى مع الإبقاء على الزوجة المريضة أو طلاقها. وفي الحالتين تكون لذلك آثار مدمرة نفسية وصحية على الزوجة». لكن زوجات كثيرات مريضات بالسرطان في مصر لا يحملن فقط عبء الحالة النفسية والقلق وهجر الزوج والألم، بل أيضاً رعب كلفة العلاج غير المتيسرة لدى غالبيتهن، وهي كلفة رهيبة لا تقوى عليها أسر مصرية كثيرة. تقول شعبان: «أزواج كثر يهجرون الزوجة المريضة بالسرطان هرباً من تحمّل كلفة العلاج على أمل بأن تلجأ إلى أهلها الذين قد يبذلون جهداً لتدبير النفقات». كما تشير إلى عامل إضافي يدفع بالزوج الأب إلى الانسحاب تدريجاً وهو الأبناء أنفسهم، وذلك لعلمه أن مرض الأم يعني تحميله قدراً إضافياً من عبء رعايتهم. ولا يرتكز منظور المبادرة «كوني الأقوى. كوني سحر» على الدعم والمساندة فقط، أو حتى جمع التبرّعات لسداد كلفة العلاج، لكنه منظور حقوقي تنموي. تقول شعبان: «نعمل على تأهيل الأزواج للتعامل مع الزوجة المريضة، وهي توعية مهمة في ظل المجتمع الذي تسيطر عليه الثقافة الذكورية ما يشجع الرجال على الهروب من مسؤولية الزوجة المريضة وذلك بدعم من المجتمع المتقبّل للفكرة». اللافت أن المرأة نفسها تتقبّل، أو ربما لا تعترض، على هذه الأنانية في التعامل، وتعتبرها حقاً بديهياً ومفهوماً ومنطقياً من حقوقه، حتى وإن كان يؤلمها نفسياً ويؤثّر عليها صحياً. حتى الأم، تربّي الإبنة على تحمّل الآخرين، وتقبّل سخافات الزوج وحتى عنفه، وتمرير نزواته والسكوت عن سقطاته «لأنه الراجل» وذلك على حساب كرامتها، ومصلحتها، وصحتها. وهذا المنظور الثقافي تخضعه المبادرة لمحاولات تعديل وتغيير، لكن من دون صدام. تقول شعبان إن المبادرة تعمل مع طالبات المدارس الإعدادية والثانوية أيضاً، لينشأن على تقبّل فكرة خضوع المرأة لعمليات الكشف الدوري، لا سيما أن اكتشاف المرض في مراحل مبكرة يسهم في تحقيق نسب نجاح مرتفعة جداً في العلاج تصل إلى نحو 98 في المئة. وتلفت إلى مسألة أخرى، ألا وهي الآثار الجانبية لإظهار المرأة مريضة السرطان قوة وجلداً ومثابرة في مقاومته. وتستغرب كيف أنه «بدلاً من الثناء على هذه القوة والاحتفاء بها، يقابلها بعضهم إما بتكذيب إصابتها بالسرطان، أو التقليل من حجم معاناتها النفسية والجسدية لمجرد أنها تبدي قوة». وبين القوة والضعف عوامل يتصل بعضها بالفئات الاجتماعية والطبقات الاقتصادية. تقول شعبان إن النساء الأعلى تعليماً والناجحات مهنياً يواجهن المرض عادة بقدر أكبر من القوة، وحتى في حالات هروب الزوج، ولا يعانين حملاً إضافياً، ألا وهو ضمان القدرة على سداد كلفة العلاج. وعلى العكس، تعاني مريضات فقيرات أو غير القادرات على تحمّل كلفة العلاج قلقاً رهيباً، لا سيما لو كن أمهات، ينافس القلق من المرض نفسه ويفوقه أحياناً. تهاني م. (38 سنة) مريضة بالسرطان وأم لثلاثة أبناء أكبرهم في الـ12 من عمره، وزوجة لعامل ترك بيت الزوجية منذ علمه بمرض زوجته. ولأنها كانت عاملة نظافة تتقاضى بدلاً يومياً، اضطرت إلى ترك العمل بعدما ضعفت ولم تعد قادرة على بذل مجهود في ظل تلقيها العلاج. وعلى رغم أن «أهل الخير» يتبرّعون لها بكلفته أحياناً، إلا أنها تفضّل أن تنفق المال على أبنائها الثلاثة لإطعامهم وسداد نفقات الدروس الخصوصية والعلاج إذا مرضوا. وتذكر شعبان أن «المؤتمرات الفارهة التي تنظمها جمعيات مختصة بتقديم الدعم لمريضات السرطان تهدر ملايين الجنيهات على حجز قاعة في فندق من فئة خمس نجوم، وإقامة منصة لإلقاء الكلمات، وتجيهز بوفيه مفتوح فاخر يحوي أرقى صنوف الطعام. لكن ما قيمة أن تقف مريضة السرطان المدعوة للمشاركة لتأكل صنف طعام رائع بينما لا تستطعمه أو ترغب في بلعه، لأن أولادها لن يتذوقوه معها؟». مبادرة «كوني الأقوى! كوني سحر» تتميّز بعملها من أجل المـريــضات، ولا تستـــخدمهن لعرض الإنجازات أو الحصول على تمويل أو نيل التغــــطيات الإعلامية. سحر شعبان مصـــابة بالسرطان أيضاً، أما ابنــــتاها خلود (21 سنة) ونـــدى (16 سن`ة) فتــشاركان معها في المبادرة بــتوعية قريناتهن من بنات مريضات السرطان من واقع تجربتهن الشخصية، على مدار العام وليس في شباط (فبراير) فقط الذي يقع فيه اليوم العالمي للسرطان.
مشاركة :