سيد قطب من الأدباء المشهورين في تاريخ مصر، فهو صاحب أسلوب أدبي متميز، وهو الذي اكتشف نجيب محفوظ وتنبأ بمستقبل أدبي باهر له. وقطب من تلاميذ عباس محمود العقاد والمقربين له والمدافعين عنه حتى وقعت الجفوة بينهما. وقد مر بمراحل فكرية متعددة، فأيَّد حزب «الوفد» ثم انتسب إلى «الإخوان» بعد عودته من أميركا، وكان ينافح في بداياته الفكرية عن العلمانية ثم انتقل إلى الدفاع عن الأفكار الإسلامية، ثم كوَّن فصيلاً متشدداً مستقلاً داخل «الإخوان»؛ ليصبح المُنظر الأهم لأكثر الجماعات التكفيرية والجهادية. كان قطب صديقاً للرئيس الراحل جمال عبدالناصر عقب ثورة 1952، وكان كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» همزة الوصل والتلاقي الفكري بينهما، وكان ناصر يشكو لقطب من «الإخوان» وتصرفاتهم معه في بداية الثورة، ثم تبدلت العلاقة إلى النقيض حينما اعتقلهم ناصر سنة 1954 وحُكم على قطب بالسجن 15 عاماً، ولعل هذا الحكم وما عاناه من عذاب وهوان السجون كان العامل الرئيس في كتابات سيد قطب التي أدت إلى نوبات متكررة من العنف والتكفير والصدام مع الحكومات المختلفة. فقد تحول فكره نحو التطرف والتشدد وتكفير المجتمع والحاكم. ويعد «في ظلال القرآن» أهم كتبه وأشهرها، وبعض العلماء مثل الدكتور يوسف القرضاوي اعتبروا هذا الكتاب وغيره سبباً فكرياً في انتشار موجات من التكفير والعنف اجتاحت العالم الإسلامي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم. ويعد الكتاب على رغم روعة سياقاته الأدبية مرجعاً رئيساً لكل الجماعات التي تبنت التكفير والتفجير والاغتيالات؛ بدءاً من شكري مصطفى وأيمن الظواهري إلى أبوبكر البغدادي. فلماذا أصبح الكتاب الأدبي البليغ سبباً في انتشار فكرتي التكفير والعنف؟ هناك أسباب هي ذاتها مفاصل مراجعة أفكار سيد قطب، وهي: أولاً: قطب كتب «الظلال» بأسلوب أدبي جذاب لكنه لم يلتزم الضبط الفقهي أو قواعد العقيدة الإسلامية الصارمة. فالأسلوب الأدبي فضفاض وغير منضبط، وتختلف لغة الأديب المرسلة الحالمة عن لغة الفقيه المنضبطة. الفقيه أشبه بالمحاسب. أما الأديب، فلغته حالمة خيالية فضفاضة. هذه اللغة لا تصلح لأن تؤخذ منها أحكام الفقه فضلاً عن أحكام العقيدة. وإذا كانت لا تؤخذ منها أحكام الحلال والحرام فكيف تؤخذ منها أحكام الكفر والإيمان، أو القواعد العامة للإسلام أو مقاصده العليا؟ اللغة الأدبية أشبه ما تكون بتفسير القرآن الإشاري عند الصوفية؛ الذي لا تؤخذ منه أحكام، إنما لطائف ورقائق ومعانٍ إنسانية وقلبية يُستفاد منها. ثانياً: سمّى قطب كتابه «في ظلال القرآن»، ولم يسمه «تفسير القرآن»، ولكن المصيبة الكبرى أن أكثر الجماعات التي تأثرت بالكتاب أخذت كل ما كتبه قطب على أنه «قرآن مُنزل»، أو أحكام فقهية أو عقائدية متفق عليها، ويا ويل من يناقشها. أخذوا ينزلون كلمات قطب على مجتمعهم وحكوماتهم ودولهم بطريقة خاطئة، من دون أن يفرقوا بين الإسلام المعصوم بقرآنه وسنة نبيه، وبين الفكر الإسلامي غير المعصوم الذي يصدر من أي عالم أو مفكر يخطئ تارة ويصيب أخرى. ثالثاً: أطلق كتاب «في ظلال القرآن» تعبير الجاهلية في أكثر أحاديثه عن سور القرآن، وأعادها وكررها على رغم أن الكلمة لم تتكرر في القرآن كثيراً، ولم تدر آياته حولها. أفاض في الحديث عن الجاهلية التي ربطها بالكفر بطريق غير مباشر، من دون تحديد دقيق لمعنى الكلمة، وأن أي مسلم أو مؤمن يمكن أن تعتريه صفات الجاهلية في بعض الأوقات ولا يخرج عن الإسلام بذلك. فلم يفصل قطب فصلاً دقيقاً بين مصطلحي «الجاهلية» و»الكفر»، على رغم أن رسول الله؛ صلى الله عليه وسلم؛ وصف أحد الصحابة الأجلاء بقوله «إنك امرؤ فيك جاهلية ،»ولم يقل أحد بكفر هذا الصحابي، بل لم يأت هذا المعنى في ذهن أحد. فالمعنى الدقيق للجاهلية هو الوقوع في ما يخالف الإسلام، وهل هناك بشر لم يتلبس يوماً بمعصية كبيرة أو صغيرة أو يخالف الدين في صغيرة أو كبيرة؟ البشر كلهم ليسوا معصومين باستثناء الأنبياء. لقد أنزلت الحركات الإسلامية الجهادية أو التكفيرية العنيفة كل كلمات سيد قطب عن جاهلية الحكم على كل حكام المسلمين وكفَّرتهم من دون استثناء، وأطلقت على الجيوش والشرطة في كل بلاد العرب هذا الوصف، ونقلتهم من خانة الإيمان إلى خانة الكفر، وبعضها كاد أن يكفر مجتمعه كما حدث من جماعة شكري مصطفى في مصر. رابعاً: أطلق سيد قطب تعبير»الاستعلاء بالإيمان» كثيراً، وهذا المصطلح غامض جداً، ولم يستخدمه أحد من علماء المسلمين من قبل على الإطلاق، وهل الإيمان يدعو إلى الاستعلاء على الآخر غير المؤمن أو غير المسلم، أم يدعو الناس إلى التواضع، والانكسار لربهم؟ وقد رأيت أن أكثر الشباب الذي يقرأ كتاب «في ظلال القرآن» يعجبه هذا المعنى ويروق له، ويخلط بينه وبين الكِبر على من يخالفه في الدين أو الفكر أو الرأي بحجة «الاستعلاء بالإيمان»، ويقع في العلو المذموم على الناس وهو يظن أنه يرتفع بالإيمان. فبين الاعتزاز والاستعلاء بالإيمان والعلو بالذات شعرة دقيقة لا يدركها إلا أُولو البصائر وأصحاب القلوب الصافية. حتى لفظة الاستعلاء هذه سيئة، والأفضل منها الاعتزاز بالدين والتمسك به، فقد استقبل رسول الله عديّ بن حاتم الطائي، وكان مسيحياً، في بيته المتواضع، فأعطاه الوسادة الوحيدة، وجلس، وهو خاتم المرسلين، على الأرض، حتى قال عدي في نفسه: «ليس هذا بملك... هذا نبي». هذا الإطلاق المتكرر لمعنى «الاستعلاء بالإيمان» جعل الكِبر يتلبس كلَّ من تدين تديناً بسيطاً بحيث يستطيل بذلك على مخالفيه، وهو يظن أنه يحسن عملاً، ولا يدرك أنه وقع في الكبر المذموم الذي نهت عنه الشرائع السماوية. خامساً: أدار سيد قطب آيات القرآن العظيم حول فكرة إنزال جماعة «الإخوان» محل جماعة الرسول الأولى، وإنزال عبدالناصر وأعوانه، وكل الحكام العرب منزلة أبي جهل وقادة قريش الذين يصدون عن سبيل الله ويرجونها عِوجاً، وأن الصراع بينهما محوره الإيمان والكفر، على رغم أن حقيقته كانت سياسية في أصلها وأساسها. وأسوأ ما يضر القرآن هو توظيفه سياسياً سواء مِن قِبل الحكام أو الجماعات الحركية. القرآن أسمى وأبقى وأغلى من الحكام والجماعات أيضاً، وآياته أشمل من أن تحصر في معنى واحد من المعاني السطحية الوقتية. ومع ذلك يبقى لكتاب «في ظلال القرآن» إيجابيات، وله أيضاً سلبيات كثيرة، ويحتاج إلى مراجعة علمية دقيقة. وأعتقد أن سيد قطب لو لم يدخل السجن في القضية الأولى، التي لم يكن له دخل فيها ولم يكن من كوادر الإخوان الأساسية حينها، ولو لم ير التعذيب البشع في السجون في منتصف الخمسينات؛ لما دشَّن هذا الفكر المتشدد ولكان أكثر تسامحاً وعفواً ورحمة. ولو أن نظام الحكم خفف حكم الإعدام الذي صدر ضده وامتدت حياته بعد ذلك ليرى الآثار السلبية لأفكاره على الشباب لراجع بنفسه تلك الأفكار؛ خصوصاً إذا رأى شباباً وصل إلى الاغتيالات والتفجير والتكفير بناءً عليه. وأرى بعد كل ما عايشته من خبرات حياتية أن إعدام الأدباء والمفكرين وإن أخطأوا يعد خطراً كبيراً لأنه يحرمهم ويحرم المجتمع من فرصة المراجعة التي كانت ستفيدهم وتفيد المجتمع. * قيادي سابق في «الجماعة الإسلامية» في مصر ومُنظّر مراجعاتها.
مشاركة :