التصنيف المجتمعي والانفتاح - إبراهيم المطرودي

  • 4/16/2014
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

لم يكن التصنيف المذهبي عيباً ثقافياً أمام إنسان هذ العصر، الذي أضحى يرى دوله موطناً لكل إنسان؛ شريطة أن يحمل في جعبته ما ينفع الناس، ويُخفف من آلامهم، ويعينهم في طريق تقدمهم. ولم يكن التصنيف بضاعة كاسدة، تُروّج في غير عصرها، وتُعرض في غير أوانها، وتُوضع بين أيدي من لا يَنْشُدُها. لم يكن هذا فحسب، بل كان التصنيف المذهبي شراً مستطيراً على أهله، ووباء وبيلاً على من يحمل عبئه على ظهره!. لقد كانت خطورته ذات بعدين؛ بُعدٍ عالمي، وبُعْدٍ محلي، ففي المجتمعات الإسلامية ما برح التصنيف وسيلة ناجعة في محاربة الانفتاح، والوقوف في دربه، والهزء بأصحابه، والاتهام لهم؛ سواء كانت الدعوة إليه من قبل الدول أم كانت اختياراً لبعض أفراد المجتمع؛ فالخوف من التصنيف المذهبي كان، وما زال، يُعكّر الجوّ على الناس، ويخلط الأوراق عليهم، ويدفعهم إلى المكث في الصندوق الثقافي الذي أُحكمت أقفاله، ووضعت في أيدي هؤلاء المصنفين مفاتيحه!. لقد أصبح التصنيف المذهبي سيفاً مُشهراً في وجوه الناس، وعقبة كأداء في طريقهم، فهم محكومون به، ومُرغمون على طاعته، والانصياع لدعاته؛ فهو الشرط الوحيد في العقد الاجتماعي، المبرم بين الجماعة والإنسان، ومن يُفكر في تجاوزه، والاستهانة به، فعليه أن يُوطّن نفسه على العيش خارج المنظومة الاجتماعية، ويدفع ضريبة العيش خارج أسوارها، في عالم لا يعرف من شروط الاجتماع إلا المعاهدة المذهبية، والاتفاق على بنودها!. للمسلمين تأريخ طويل مع التصنيف المذهبي، والهدف الأبرز من ورائه قديماً وحديثاً، هو الإبقاء على المسلم داخل صندوق الجماعة، والبُعد به عن كل ما يجرح شيئاً من مذهبيته، أو يُشكك في شيء من قضايا عقدها الاجتماعي معه، فهذه المذهبيات كانت تقوم مقام الدول، وتحل محل المجتمعات، ويفرض عقدها الاجتماعي حدوداً معنوية، وخارطة واضحة المعالم، لا يُسمح للمسلم بتجاوزها، والتعدي عليها، ومن يفعل شيئاً من ذلك؛ فهو كمن يدخل اليوم دولة غير دولته بلا جواز، ولا رخصة إقامة! وفي العصر الحديث كان التصنيف المذهبي أحد أخطر الأسلحة، وأنجعها في تشويه الناس، وأقواها في شغل المسلمين عن عالم الأفكار الجديد بتصنيف المنفتحين على الأمم المتقدمة، والمطلعين على ثقافتها، فمن الشيخ جمال الدين الأفعاني وتلميذه المبرز الشيخ محمد عبده الماسونيين إلى كَيْل التهم بالصِّيعان (جمع صاع) للمنفتحين في العقود الأخيرة، تارة بتهمة الحداثة، وأخرى بتهمة الليبرالية، وعلى حين تتقدم عجلة الفكر في العالم، المحيط بنا، وتدفع بالجديد كل يوم، ما زلنا رهن طريقة نظرنا القديمة، لا نستفيد مما حولنا من حراك معرفي، وسباق ثقافي، إلا في تدشين مصطلحات تصنيفية جديدة، لا يُراد منها شيء؛ سوى أن نُحذّر الناس من طرائف العقل الحديث، ونُخوّفهم من جديد الفكر، ونبرز أمامهم خطوط العقد الاجتماعي الحمراء، خشية من أن يعرفوا غير ما أَلِفوه، وأَلْفَوا آباءهم عليه!. وإذا جئنا إلى مجتمعنا، الساعي في درب الانفتاح، والمزمع مواصلة السير إليه، والْمُصرّ على مشاركة العالم عبر بوابته، وجدنا التصنيف أحد أكثر المضادات الثقافية في محاربته، وتحصين الناس من نيل من ثماره، والسعي إلى الانتفاع به؛ إذ يخلق عزلة شعورية لكل من يؤمن بفكرة الانفتاح، ويدعو إليها باللسان والقلم؛ لأن إنساناً كهذا يصبح عند أرباب التصنيف عُرضةً للوباء، وقابلاً أن ينتقل من سعة المذهب إلى ضيق العقل، وتلك هي قابلية الزيع، وإمكانية الضلال، فيكون حاله كحال المجذوم، وعلى الناس أن تفر منه، وتفزع من الاتصال به، والاغترار بما عنده؛ كما تفر من الأسد، وتفزع عند ملاقاته. ومن المحزن حقاً هذه الأيام أن تكون الاستفادة من الانفتاح في تحقيق حاجات الناس، وتلبية رغباتهم، والتوسيع عليهم، سبيلاً من السبل التي يجري توظيف التصنيف في محاربتها، والاتهام لأهلها، والطعن في أخلاقهم، وشاهد هذا حال بنات مجتمعنا اليوم حين طُرحت فكرة الرياضة، وبُدئ بالتفكير فيها؛ مما يجعل من يسن قوانين الرياضة في المدارس، ويُصدر الإذن بالعمل على إقرارها، أمام معضلة تصنيفية حقيقية؛ إذ سيجري لهؤلاء الطالبات من بناتنا وأخواتنا اتهام بالجملة؛ كما هي حال تلك النسوة التي فكرن في قيادة السيارة، وطالبن الدولة بحقهن في ذلك، وما تلك الأحداث عنا ببعيد!. وعلى كل حال فإني أذهب إلى أن التسريع باتخاذ القرارات، ذات التعلق بأفراد المجتمع (الرياضة للطالبات) يُعد خروجا بأقل الخسائر من هذه الحرب التصنيفية الجائرة، ويمنع من اتهامهن، والتطاول عليهن؛ إذ يظن أرباب التصنيف أن تأخر الدولة في اتخاذ القرار نصرة لهم، ومؤشر من مؤشرات فتح أفواه بنادقهم، وحين يصدر القرار، كما صدر في غير هذه القضية، يلوذ هؤلاء بالصمت، ويقبعون مع بنادقهم ينتظرون فرصة جديدة، تسنح لهم، ويحملها إليهم الانفتاح بين يديه، ويجدون لهم بها شغلاً، ولعلهم يجدون بهذا حسنة من حسنات الانفتاح، فيذكرونها، ولا يغفلون عنها. ولا يقف الأمر بالتصنيف المذهبي، وأهله المغرمين به، عند هذا الحد الذي يجعلهم يرتابون من الانفتاح، ويعرقلون كل سبيل إليه، فهو مع هذا سبب من أسباب الظلم الرئيسة، ودافع من الدوافع إلى كتمان الفضل، وجحده على أهله؛ خوفاً من أن يكون الثناء على المحسن، والشكر للنافع، وإبداء ما عند الآخرين من الخير {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سببا من أسباب تزيين مذهبهم، وإغراء الناس بهم! ولا يمنع هؤلاء من الاندفاع إلى هذا السبيل، أنهم دعاة العدل، وأنصار الإنصاف؛ إذ لا يحضر هذان المعنيان عندهم إلا حين يتعلّق الأمر بهم، وبمن كُتب عليهم أن يأخذوا بمذهبه، وينهجوا نهجه. يُريد هؤلاء من الآخرين أن يعترفوا بفضل آبائهم، ويثنوا عليهم، ويعدّون عدم الاعتراف لهم من بخس الحق، وظلم المحسن؛ لكنهم حين يتعلّق الأمر بغيرهم يستجيزون خلاف ما قرّروه، وعجبوا من تجاوز الناس له، تجدهم يفرحون حين يسمعون هيجل، أحد كبار فلاسفة هذا العصر، يقول:" إن العرب في فترة قليلة من الزمن وجدوا أنفسهم متقدمين على الغرب بكثير" (د. محمدي رياحي، هيجل والشرق، 16)، ويطربهم قوله في هذا الكتاب أيضا:" إن العلوم والمعارف، خاصة الفلسفية منها، جاءت إلى الغرب عن طريق العرب، وبمجرد الاحتكاك بالشرق، اشتعلت شعلة شعر جميل، وخيال خصب عند الجرمانيين، وهكذا توجه غوته أيضاً إلى آسيا، فأعطى في ديوانه عقداً من اللؤلؤ" يفرحون بهذا، ويطربون عند سماعه؛ مع أنه لا يتحدث عنهم هم، ولا عن جهودهم، ولا ينظرون بمثل هذا إلى أمم الأرض التي انتفعوا منها، واقتبسوا كثيراً من حكمتها في هذا العصر، فمن حقهم أن يعترف الناس بأفضال آبائهم، وحسنات أجدادهم، وليس من حق الناس، المعاصرين لهم، أن يفرحوا بسماعهم، وهم يعترفون لهم بأفضالهم، ويُزجون بها الشكر إليهم. منع الخوفُ مسلمي المذهبيات من الانفتاح، ودفعهم إلى سياسة الكيل بمكيالين، تلك السياسة التي طالما تغنوا بهجائها، وأكثروا من الطعن في الناس بسببها، فصار من الواجب أن يتحدث الآخرون عن حسنات أجدادهم، ومن المحظور عليهم أن يذكروا حسنات معاصريهم؛ لكنهم وإن جاروا في القسمة، ولم يعدلوا في الحسبة، فقد وُجد في فلاسفة العرب، الذين يذمونهم، ويتبرأون منهم!، من عرف حق غيره عليه، ولم يغب عنه تقرير هذا المبدأ الرائع؛ فها هو الفيلسوف العربي الكندي يقول في رسالة الفلسفة الأولى:" ومن أوجب الحق أن لا نذم مَنْ كان أحد أسباب منافعنا الصغار الهزليّة، فكيف بالذين هم أكبرُ أسباب منافعنا العظام الحقيقية الجديّة، فإنهم وإن قصّروا عن بعض الحق، فقد كانوا لنا أنساباً وشركاء فيما أفادونا من ثمار فكرهم، التي صارت لنا سبلاً وآلاتٍ مؤدية إلى علم كثير مما قصروا عن نيل حقيقته"، ومع هذا سيبقى الاعتراف بالفضل، وإسداء الشكر لأهله، جزءاً من ثقافة الانفتاح، وثمرة من ثمارها، لا يستطيعه دعاة الانغلاق، ولا يُفكّرون بالإقدام عليه! وسيظل التصنيف المذهبي عائقاً من عوائق الأخذ به، والتحلي بفضيلته.

مشاركة :