مصدر الصورة iStock Image caption لقد باتت أفاق معرفتنا بأنواع الطعام المختلفة أوسع من أي وقت سبق ربما سيستغرب الكثيرون من أن بعض أنواع الطعام، التي يظن أنها جلبت من بلدان بعينها، ظهرت إلى الوجود في أماكن مختلفة تماما. باتت معرفتنا بأنواع الطعام المختلفة حاليا أوسع من أي وقت سبق. فحتى إذا كنت في بلدة صغيرة، سيكون في وسعك إذا ما سرت في شارعٍ مزدحم هناك، أن تمر بمطعمٍ هندي، وبآخر يقدم السوشي، وبثالث يبيع وجبات صينية يمكنك شراؤها وتناولها في المنزل. أما في المدن الأكبر، فتتوافر للمرء العديد من أنواع الطعام للاختيار من بينها، مثل كعكة "إنجيرا" الاسفنجية التي يُفترض أن أصلها يعود إلى شرق أفريقيا، وطبق "بيبيمباب" الكوري، والـ"بابا غنوج" العربي، بجانب حساء صيني من مقاطعة سيتشوان يُعرف باسم "توفو"، ويُعد من فول الصويا المهروس الذي تُضاف إليه حبات الفلفل. إلى جانب ذلك، هناك طبق إسباني معروفٌ باسم "موليه سوسيه"، بالإضافة إلى معكرونة الـ"فيتوتشيني"، وهو طبق إيطالي الأصل، وحساء "فا" الفيتنامي. لكن المفاجأة أن أنواعا من الطعام قد تخال أنها مجلوبة من أماكن معينة، تكون في واقع الأمر أحياناً ثمرة لابتكارات طهاة، ربما يكونون أقرب إليك جغرافياً مما تظن. بل وقد يكون سكان البقعة، التي يُفترض أنها منشأ هذا الطبق أو ذاك، لا يعلمون شيئاً البتة عن وجوده من الأصل. مثالٌ على ذلك؛ الطبق المعروف بـ"دجاج الجنرال تسو"، وهو إحدى الأكلات الصينية المحبوبة في الولايات المتحدة وبلدان أخرى كثيرة. وهذا اللون من الطعام عبارة عن قطع دجاج مقرمشة، تُغمر في الزيت بغرض القلي، وتُغطى بطبقة من الصلصة الحلوة ذات القوام اللزج. وتوجد هذه الوجبة في المطاعم الصينية المنتشرة بين مدينتي سان فرانسيسكو وأوماها، ومن ولاية نبراسكا إلى العاصمة البريطانية لندن. لكن المفاجأة التي اكتشفتها الطاهية البريطانية فِوشا دنلوب، عندما أقامت في مقاطعة هونان الصينية، التي يُفترض أنها المكان الذي ابتُكِرَ فيه هذا الطبق، أن لا أحد هناك سمع عنه. بل إن الجهل به يمتد في حقيقة الأمر إلى الصين كلها. كما أن مذاقه يختلف عن المذاق المعتاد للأكلات المحلية في هونان. مصدر الصورة iStock Image caption عندما بدأت البيتزا في إيطاليا كانت عبارة عن فطيرة رقيقة القوام لا تُقدم بالكثير من النكهات ولكنها أصبحت مع انتقالها إلى الولايات المتحدة ذات حجم أكبر ومكونات متعددة للغاية على أي حال، كان الجنرال تسو شخصية حقيقية؛ إذ أنه رجلٌ عسكري من هونان، اضطلع بدورٍ في إخماد ما يُعرف بتمرد تايبينغ، وهي انتفاضة عنيفة شهدتها الصين في منتصف القرن التاسع عشر بقيادة شخصٍ كان يزعم أنه الشقيق الأصغر للمسيح. بل وكاد هذا التمرد أن ينجح في الإطاحة بحكم سلالة تشينغ. لكن هذا الجنرال قضى نحبه دون أن يبدي أي اهتمام خاص بالدجاج المقلي في الزيت الغزير؛ حسبما تخبرنا كتب التاريخ. أما الرابط الوحيد بين اسمه وبين هذا النوع المحبوب من الطعام - حسبما كتبت دنلوب - فهو عملٌ قام به مبتكر هذا الطبق؛ الطاهي بينغ تشانغ-كيوي، وهو من هونان أيضا. فـ"بينغ"، الذي كان طاهياً شهيراً لدى ما يُعرف بـ"الحكومة الوطنية" التي حكمت الصين بين عامي 1925 و1948، فر إلى تايوان بعد اندلاع الثورة الشيوعية عام 1949. وقد ابتكر هذا الطعام بعدما غادر البر الرئيسي للصين. وعندما أُعد للمرة الأولى، كان مذاقه أقرب للحامض وليس الحلو. وبفضل أصحاب مطاعمٍ في نيويورك تناولوا "دجاج الجنرال تسو" في تايبيه، شق هذا الطبق طريقه بنجاح إلى الولايات المتحدة، وتحول هناك بمرور الوقت، إلى شكله الحالي الذي يجعله عبارة عن وجبةٍ ذات مذاق حلو لا تكاد أن تشبه ما كانت عليه في الأصل على الإطلاق. وطرأت هذه التغيرات - على ما يبدو - بفعل تفضيلات المستهلكين الأمريكيين، الذين ينزعون إلى الأطعمة ذات المذاق الحلو بشكل أكبر من نظرائهم في هونان. وفي عام 2014، وفي إطار فيلم وثائقي بعنوان "البحث عن الجنرال تسو" استهدف تعقب أصل هذا الطبق، عرض صناع العمل على الطاهي بينغ - الذي كان وقتها في السادسة والتسعين من عمره - صوراً للطبق الذي ابتكره ولكن على الطريقة الأمريكية، ليقول الرجل إن الشكل الأمريكي لهذا الطعام لا علاقة بما ابتكره هو. وربما ينطبق نفس الشيء على الشكل الذي بات يُعد عليه طعام صينيٌ أخر يُعرف باسم شطائر "تشاو مَين"، وذلك بفعل انتقاله من موطنه الأصلي إلى منطقة أخرى. فهذه الأكلة الغريبة تتألف من شطيرتي خبز تُوضع بينهما أشرطة معكرونة (شعرية) مقلية مُضافٌ إليها مرقة ذات لون بني قاتم. واعتباراً من منتصف القرن العشرين؛ شكّل هذا الطبق، الذي يحتوي على نوعين من الكربوهيدرات، وجبة غداء زهيدة الثمن، أُتيحت لمرتادي المطاعم الصينية في منطقة مدينة "فال ريفر" بولاية ماساتشوستس، وهي تلك المنطقة الواقعة إلى الجنوب مباشرة من مدينة بوسطن عاصمة الولاية. وفي هذه المناطق نفسها، كان بوسع المرء أن يجد لون طعامٍ آخر مؤلفاً من لحوم وبيض وخضروات، يُعرف باسم "تشوب سوي". ويُعتقد أن هذه الوجبة بدأت في الأصل في مقاطعة غواندونغ غربي الصين التي أتى منها الكثير من المهاجرين الصينيين إلى الولايات المتحدة. وكانت في البداية طبقاً مؤلفاً من أحشاء الذبائح والخضروات. مصدر الصورة iStock Image caption يختلف مذاق "دجاج الجنرال تسو" بشكل كامل عن مذاق أي طبق آخر قَدِمَ من المنطقة التي يُفترض أن هذه الوجبة نشأت فيها لكن هذه الوجبة عُرفت في باقي أنحاء العالم، على أنها طبقٌ مؤلفٌ من الكرنب الصغير واللحوم والخضروات، التي قُليت معاً بسرعة في الزيت على الطريقة الصينية. وتُضاف صلصة إلى هذا الخليط الذي يُقدم بتنويعات لا نهايةً لها تقريباً. بل إن اسم هذا الطبق بات مرادفاً لأي لونٍ شبه سائل من الطعام يحتوي على مكوناتٍ خُلطت ببعضها البعض، مثل طبق "شوب سوي" على الطريقة الأمريكية، وهو خليطٌ من المعكرونة واللحم المفروم والخضروات مُضافاً إليه صلصة؛ تلك الوجبة التي يمكن أن تراها على موائد العشاء في كنائس منطقة نيو إنغلاند شمال شرقي الولايات المتحدة. لكن ابتكارات الجوعى نادراً ما تقتصر على الأطعمة صينية المنشأ. فالطبق المعروف باسم "دجاج تيكا ماسالا"، وهو عبارة عن مزيجٍ زكي الرائحة وطيب المذاق من قطع الدجاج والصلصة برتقالية اللون ثخينة القوام، ربما يكون هندياً من حيث النكهة، لكنه قد يكون قد ابْتُكِرَ في بريطانيا على ما يبدو. رغم ما تبين من أن بعض القصص المتداولة والمشهورة بشأن منشأه لم تصمد أمام جهود التحقق والتدقيق. وفي مقالٍ مطول ومفصل، نُشِرَ في دورية "رودس أند كينغدامز" (طرق وممالك)، استعرض الصحفي مارك هايّ - وعلى نحو محدد - كل ما هو معروف عن قصة نشأة هذا النوع من الطعام. حتى فطائر البيتزا - بيتزا الأيام الخوالي كما يقول البعض عنها - كانت بالأحرى في الوقت الذي بدأ فيه المهاجرون الإيطاليون الوصول إلى الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، مجرد وجبة لا أهمية تُذكر لها، من الخبز المفرود على هيئة فطيرة. ولم تحدث كل هذه التغيرات التي طرأت على البيتزا سوى في "المنفى" في الأساس على ما يبدو، لتتحول إلى فطائر شهية مدهشة تكسوها طبقة من الإضافات المتنوعة وتشبه الجبن في قوامها، بل وتشكل - للمفارقة - رمزاً للمطبخ الإيطالي. وبلغ الأمر حد استخدام الباحثين تعبير "تأثير البيتزا" للإشارة إلى أي شيء ينتقل من مكان نشأته إلى مكان آخر، وتطرأ عليه هناك تغيراتٌ تجعله مختلفاً بشكل كامل تقريباً، عما كان عليه في البداية (رغم أنه يلقى احتفاءً بوصفه جزءاً من ثقافة المكان الذي جاء منه). دورة حياة هذه الأشياء التي يُستخدم معها هذا التعبير، تكتمل بعودتها، ككيان جديدٍ ومختلفٍ كلية، إلى أماكن نشأتها المرتبكة من فرط هذه التغيرات والتحولات. ولا يبدو أن ثمة خاسرين فعليين في هذه اللعبة الخاصة بالأطعمة، والتي تشبه لعبةً صينيةً تنتقل فيها إحدى المفردات همساً من كل لاعب لآخر، لتظهر المفارقات في النهاية، مع تفوه أخر اللاعبين جهراً بالكلمة، التي ربما يكون قد طرأ عليها العديد من التغيرات خلال انتقالها من فم هذا إلى أذن ذاك. فألوان الطعام الجديدة على مكانٍ ما تتكيف مع الأذواق السائدة هناك. بل وتصبح في بعض الأحيان أطباقاً تقليدية في حد ذاتها. وإذا ما ظهر فيما بعد إقبالٌ أو رغبةٌ في تناول هذا الطبق بـ"شكله الأصلي" فبِها ونَعُمتْ، كما يُقال. لكن لن يكون غريباً في الوقت ذاته أن نجد الوضع وقد صار معكوساً. فإذا زرت الصين في أي وقت، جرب أن تبحث عن قسم المأكولات الأجنبية في أي مطعم، لكي ترى ما يشبه صورةً معكوسة لوجبة الـ"تشوب سوي"، ذلك الطبق ذي الأصل الصيني. فهناك يمكنك أن تراه وقد بدا مجلوباً من الغرب، وتم تحضيره على الشاكلة ذاتها التي اعتدت عليها. إذ ستجده عبارةً عن شريحة من الجبن الأمريكي، ذابت فوق طبق من الأرز والخضروات المُحَمَّرة. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future .
مشاركة :