ما إن تتوقف السيارة في وسط صنعاء، حتى يهرع خمسة أطفال اليها: واحد يرش سائلاً على الزجاج الأمامي، وآخر يمسح الزجاج الخلفي، والثلاثة الآخرون يلتصقون بنافذة السيارة من جهة السائق طالبين منه المال. يحاول السائق تجاهلهم، فيرفع زجاج النافذة بعصبية، لكن الأطفال الخمسة يكررون طلبهم مرة تلو الأخرى، على أمل ان يبدل السائق رأيه ليعودوا الى الرصيف بمبلغ يؤمن لهم وجبة طعام في مدينة تقف عند حافة المجاعة. في اليمن، البلد الفقير الذي يعيش نزاعاً مدمراً منذ سنتين، وجد هؤلاء الأطفال ومئات غيرهم من الفتية أنفسهم مضطرين للتسول من أجل تأمين الطعام لعائلاتهم بعد مقتل أولياء أمورهم او فقدانهم مصدر رزقهم. وقتل والد مصطفى في النزاع الدامي الذي يهز اليمن منذ 2014، وأصبح الطفل البالغ من العمر 15 سنة، فجأة مسؤولاً عن والدته وأربعة من أشقائه. ويقول مصطفى أحمد عبدالله لوكالة فرانس برس «مات أبي في الحرب في حرض (محافظة حجة شمال صنعاء). لدي ثلاثة اخوة وأمي، والآن نحن نتسول في شوارع صنعاء لأننا لم نعد نجد ما نأكله». ويضيف الفتى النحيل وهو يبحث عن سيارة متوقفة ليطلب المال من سائقها «حاولت العمل لكنني لم أعثر على وظيفة، فوجدت نفسي في الشارع، وجلّ ما أحصل عليه في آخر النهار هو 1200 ريال»، ما يعادل نحو خمسة دولارات. على مقربة من مصطفى في شارع القاهرة في وسط العاصمة التي يسيطر عليها المتمردون الحوثيون منذ ايلول (سبتمبر) 2014، وبين أبنيتها التاريخية البنية والبيضاء، تنتقل عبير وشقيقها عبد الرحمن من سيارة الى أخرى. وتقول وهي تمسك بيد شقيقها عبد الرحمن الذي وقف الى جانبها حافي القدمين «ليس لدينا ما نأكله. خرجنا الى الشارع لنجمع بعض المال او الطعام». في البلد الواقع على الحدود مع المملكة العربية السعودية، تسبب النزاع بتدهور الأوضاع الإنسانية والصحية في شكل كبير لنحو 26 مليون يمني. وبات أكثر من ثلثي السكان محرومين من الحصول على العناية الطبية اللازمة، ويصعب الوصول الى الغذاء. وتؤكد منظمة الأمم المتحدة للأطفال (يونيسف) ان سوء التغذية والأمراض تتسبب بوفاة طفل واحد على الأقل كل عشر دقائق في اليمن، مشيرة إلى أن حوالى 2.2 مليون طفل يمني يعانون من سوء التغذية الحاد ويحتاجون الى عناية عاجلة. كما تشير أرقام «يونيسف» الى ان 1400 طفل قتلوا في النزاع منذ بدايته. ويقول رئيس منظمة «سياج» المستقلة أحمد القرشي، والتي تعمل على تعزيز حقوق الطفل وحمايته ومقرها العاصمة اليمنية، «الأطفال هم أكثر من يدفع ثمن الحرب». وتحولت شوارع المدينة الخاضعة لسيطرة الحوثيين المناهضين للرئيس المعترف به عبد ربه منصور هادي، الى ما يشبه منازل ثانية لهؤلاء الأطفال يأكلون ويشربون فيها خلال فترة تسولهم المال والطعام. ويتجمع معظمهم أمام المساجد والمطاعم، وتبدو على وجوههم وأجسادهم النحيلة آثار التعب والإرهاق نتيجة قلة الغذاء. ويجلس بعضهم قرب أمهاتهم اللواتي يبعن المحارم الورقية او يمسحن زجاج السيارات. وحذّر برنامج الأغذية العالمي من تدهور وضع الأمن الغذائي وتزايد معدلات سوء التغذية لدى الأطفال في اليمن. ويخشى البرنامج ان «جيلاً كاملاً يمكن أن يصاب بالعجز بسبب الجوع». وطلبت الأمم المتحدة اول من أمس 2.1 بليون دولار كي تؤمن مساعدات هذه السنة لنحو 12 مليون شخص متضررين من النزاع في اليمن، اي حوالى نصف عدد السكان. وقال مسؤول العمليات الإنسانية لدى الأمم المتحدة ستيفن أوبراين ان «سنتين من الحرب ألحقتا الخراب باليمن وبملايين الأطفال والنساء والرجال الذين هم في حاجة ماسة لمساعدتنا. ومن دون دعم دولي، فإنهم يواجهون خطر التعرض لمجاعة هذه السنة». ويؤكد طبيب الأطفال أحمد يوسف الذي يعمل في أحد المراكز الصحية في صنعاء ان «سوء التغذية ظهر في شكل مفاجئ وبدأ يتصاعد. واليوم، لا الدولة ولا منظمات المجتمع المدني قادرة على توفير ما يلزم لمعالجة هذه الكارثة». ويضيف «لا احد قادراً على توفير العلاج والطعام. الأطفال تركوا لمصيرهم». ويروي يوسف ان هناك آباء «يطلبون معالجة اطفالهم المصابين بسوء التغذية، فنكتب لهم العلاج على ورقة. يأخذ الأب الورقة، يبيع ممتلكاته، يتوسل المال، يفعل كل شيء ليشتري العلاج». لكن في بعض الحالات «يموت الطفل، وتبقى ورقة العلاج بيد والده».
مشاركة :