التدافع: الائتلاف والاختلاف

  • 2/10/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

1- التدافع: اختلاف وائتلاف ليس اعتراضنا على حرية الاعتقاد والرأي، فمَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليكفر، ولكن اعتراضنا ينصب على الازدواجية والنفاق وذهنية الإقصاء، وعلى أشكال الإكراه والقمع المعنوي والابتزاز الفكري الذي يمارسه الخطاب السائد في جماعة ما، فكل ذلك من سمات "الدوغما" العقدية، وتحكيم الصور الذهنية النمطية المرسومة "للذات" الجمعية، و"للآخر" الموضوع، عوضاً عن تحكيم النظر المعرفي (Epistemological) في الحقيقة الاجتماعية (Social reality) بوصفها ظاهرة يتحقق وجودها الواقعي واشتغالها في التاريخ والتنظيم الاجتماعي بفضل نشاط الوعي الذي يتمثلها ويمثل بها الواقع، فيعمل على إنتاجه وفقاً لذلك التمثيل. وعلى ذلك فإن عدم الإيمان لا ينبغي له أن ينفي الظاهرة الدينية بوصفها حقيقة اجتماعية ثقافية فاعلة؛ بل لعلها أقوى الظواهر بقاءً وصموداً وتأثيراً عبر التاريخ. والمؤرخ العظيم أرنولد توينبي لم يكن مؤمناً بالحقيقة الدينية المجردة، ومع ذلك أسلمه النظر المعرفي إلى أن يضع الدين في مكان مركزي في المسار التاريخي، فإن أنت أقررت بذلك لم يسعك أن تخلط بين عقيدتك اللادينية وبين تعاملك الواقعي مع الظاهرة الدينية، فتحكم مبدأ الإقصاء والاجتثاث. وتلكم هي "الدوغما" التي تصبح منها العقيدة اللادينية ديناً معكوساً، لا ينكر الحقيقة المطلقة عند الآخر المتدين إلا بقدر ما يثبتها لنفسه، ثم لا يجد كلا الطرفين الضدين طريقة لإثبات حقيقته وإقصاء حقيقة الآخر إلا إعلان الحرب على الآخر، فيلتقيان فيما اختلفا عليه! والحال أنها حرب خاسرة بالمعيار العملي، فمن اشترط نقض الإسلام لتحقيق غاية إصلاحية تنويرية فقد حكم على مشروعه بالإخفاق وأحبط الغاية النبيلة نفسها مهما تكن ضرورة اجتماعية تحررية نهضوية بحق؛ إذ غرب وألّب عليها تلك الفئات نفسها التي يفترض أن مشروع التغيير موجه إلى تحريرها وإنهاضها، فإذا أقررنا أن الناس هم وسيلة التنمية وغايتها في الوقت نفسه، فإن الوصفة الكفيلة بإحباط مشروع التغيير والتنوير تتمثل في مصادمة حساسياتهم الدينية والثقافية الراسخة العميقة، حين يوضعون أمام خيارين متفاصلين: فإما عقيدتهم الدينية مع المظالم التي تقعدهم، وإما التحرر وصلاح الحال مع نفي الدين والمقدس! عندئذ ستجد جل هؤلاء يقاومون ما يهدد عقيدتهم ولو حمل لهم وعود التحرر والعدالة والنهضة والتقدم والازدهار! هذه في رأيي شروط موضوعية لا علاقة لها بعقيدة دعاة التنوير والإصلاح إيماناً بالدين أو إنكاراً له، فمن كان مخلصاً حقاً لأهداف التحرر والنهوض لم يسَعه تجاهل الشروط الموضوعية والمصادر الثقافية للمجتمع وهويته، فيكون كالمنبّت: لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، أو كمن انشغل بمقاتلة الناطور عن بلوغ العنب كما يفيد المثل الشعبي، ويكون قد جعل "الأيديولوجيا" المجردة في ذاتها موضوع الصراع وغايته، عوضاً عن توظيفها في تشخيص الواقع وتغييره، ثم تقويمها ومراجعتها في ضوء النتائج والغايات العملية. والشواهد التاريخية المعاصرة في بلادنا ومنطقتنا كثيرة. فذاك شاه إيران الأخير لم يحسن تقدير قوة المشاعر الدينية في بلده، وهو يعمل على تغريب المجتمع باسم التحديث والتطوير على طراز الغرب، وكانت النتيجة ثورة إسلامية شعبية شاملة عارمة انتهت بدولة الولي الفقيه و"الملالي". أما تركيا، فبعد أكثر من ثمانين سنة من النظام الأتاتوركي العلماني العسكري الصارم، الذي لم يكتفِ بعلمنة الدولة، فعمل بكل الطرق على علمنة المجتمع نفسه وتجريده من مصادر هويته الثقافية الإسلامية وعلى إلحاقه بالغرب، بعد هذا كله رأينا الإسلام ينبعث من جديد ويعبر عن نفسه سياسياً بالطرق الديمقراطية مع انحسار وطأة العسكر. وتلكم تونس، لم تفلح محاولات بورقيبة وخلفه زين العابدين في تغريبها وتهميش مرجعها الثقافي الإسلامي بوسائل القمع البوليسية، ذهب الرجلان وبقي الإسلام فاعلاً وموجهاً. أما الجزائر فقد غبر عليها أكثر من مائة وثلاثين سنة من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني الثقافي معاً، ولم تختفِ آثاره السياسية بعد الاستقلال، ومع ذلك لم يقوَ ذلك كله على طمس الهوية الإسلامية للشعب الجزائري، بل ازدادت قوة في مواجهة التهديد، واتخذت بعض تعبيراتها أشكالاً متطرفة بعد حين. وقبل الشيوعية المدعومة بالغزو السوفييتي في أفغانستان، لم يكن الشعب الأفغاني يعرف النمط الطالباني المغلق وأمثاله. فإن تهديد الهوية يؤدي إلى انغلاقها كما تؤكد التجارب المعاصرة، والتطرف ينتج نقيضه المتطرف أو يتشارط معه، وكلاهما يتغذى من الآخر، وبدلاً من أن تتدافع الأفكار في مناخ سلمي وديمقراطي يسلّم بالتعددية، وتستظهر في برامج عملية تصدّقها اختبارات الواقع أو تكذبها أو تدفع إلى مراجعتها وتكييفها، بدلاً من ذلك لا يأبه التطرف والإقصاء المتبادل بأن يضحي بالمجتمع ومصالحه من أجل الفكرة! فلا يكون التدافع بين الأضداد على تطوير الواقع واستباق الخيرات، ولكن على غلبة الفكرة بالإكراه، وليذهب المجتمع ومصالحه إلى الجحيم! ليس عليك أن تكون مسلماً أو مؤمناً أو متديناً كي تقر بقوة الإسلام في الوجدان العام وفي التوجيه والتأثير، وبكونه مقوّماً أساسياً من مقومات الهوية الثقافية الحضارية العربية الإسلامية، وإنما تتعرف الشعوب والأمم بهويتها الحضارية، فيكون تهديدها تهديداً للوجود الجمعي نفسه، فلا غرابة أن تدافع الشعوب عن هويتها المهددة دفاعها عن وجودها، حتى لو استخفى التهديد في مشاريع تعد بالتحديث والتطوير والتقدم والنهوض والتحرر والعدالة. وبطبيعة الحال لا يعني ذلك كله قبول الفكر الديني الموروث والمعاصر الذي أنتجه الوعي دون مراجعة وتجديد وتطوير، فلا ينبغي المطابقة بين الوحي واجتهادات البشر في فهم نصوص الوحي وإنزال معانيها على الواقع، وهي اجتهادات محكومة بالشروط التاريخية ومحتوى الوعي، فهي ظواهر ثقافية اجتماعية، وقد بينا في مواضع سابقة أن الثقافة حقيقة ديناميكية متغيرة ومتواصلة في خط صيرورتها، إلا أن تتحلل وتختفي، فتختفي معها الأمة التي تتعرف بها هويتها، وهي كذلك مفتوحة للنشاط التأويلي الذي يرفد التدافع الاجتماعي بين الأفراد والجماعات حول المصالح والأغراض والمطالب المتضاربة في الفضاء الثقافي المشترك نفسه، وبذلك ينتظم التدافع في الحدود الجامعة التي تصون التماسك الاجتماعي، وإلا كان التفكك الذي ينذر بانفراط الهوية الجمعية. فإن كان الأمر كذلك، فإن ضرورات المراجعة والتجديد والتطوير في الموروث الثقافي بعامة، والفكر الديني بخاصة لا تقتضي نبذ المرجع بجملته ولا إلى الانسلاخ من الهوية الثقافية على الجملة شرطاً للتقدم والتحرر. فالتأويلات والقراءات والخطابات الإسلامية المستنيرة أجدر بأن تدافع التأويلات والخطابات المتطرفة، دون أن تغرّب الجمهور العريض باسم التقدم، فالتقدم يفترض وجود موضوع تشتغل عليه مشاريع النهوض، أما نفي الموضوع نفسه فينقل الصراع والتدافع من قضية التجديد والإحياء والنهوض إلى قضية الوجود الذي يتعين في الهوية الثقافية والحضارية. وإذاً، فمن السذاجة والتبسيط المضلل أن يختزل بعضنا الصراع الفكري القائم بين فسطاطين: تيار علماني تغريبي، وتيار إسلامي متشدد ماضوي منغلق؛ ليكون الخيار بين الرمضاء والنار! فلا الفكر العلماني ظاهرة واحدة متجانسة، ولا الفكر الإسلامي كذلك. وثمة خطابات إسلامية ودينية، ربما اختلفت فيما بينها أكثر مما يختلف بعضها مع بعض طروحات الفكر العلماني. وفي رأيي أن التدافع بين الخطابات الدينية والإسلامية المعتدلة والمتشددة، المستنيرة والمنغلقة، أهم في تداعياته المستقبلية من التدافع بين مجمل الخطابات الإسلامية من جهة ومجمل الخطابات العلمانية من جهة أخرى، على أن نزعة الإقصاء المتبادل والتنكر لمبدأ التعددية والتدافع السلمي وقبول الآخر، تفضي عادة إلى استقطاب حاد يحاصر الخطابات العقلانية المعتدلة المستنيرة في كلا الجانبين، لصالح الاتجاهات الإقصائية الأكثر تطرفاً هنا وهناك. الدين إذاً، كحال أي مرجع عقدي أو مصدر ثقافي، لا ينطق عن نفسه خارج نشاط الوعي الذي يتعامل معه، فالحاكم المستبد يمكن أن يستغله ليسوغ استبداده ويؤبده، ويقمع معارضيه. وفي المقابل يمكن أن يكون محركاً عظيماً للشعوب ضد الغزاة والطغاة. كذلك يمكن أن تستند إليه التيارات المتطرفة المنغلقة لتشريع القتل ونفي التعددية وتكريس التخلف، كما يمكن أن تستند إليه التيارات الوسطية المستنيرة، لتعظيم قيمة الحياة والإنسان، واحترام مبدأ الاختلاف والتعددية، ودفع عجلة التحرر والتقدم والتجديد والتطور والإنماء. خلاصة القول إنه لا يصح الخلط بين الإسلام بوصفه عقيدة دينية يؤمن بها من يشاء وينكرها من يشاء، وبين الإسلام بوصفه حقيقة حضارية فاعلة نتدافع على طرق توجيهها وتوظيفها وترشيدها، ويجتمع فيها كل من ينتسب إلى الهوية العربية الإسلامية: المسلم وغير المسلم، المؤمن وغير المؤمن، والمتدين وغير المتدين. والفرد مجموعة هويات في الوقت نفسه، يجتمع في إحداها مع طرف، وفي غيرها مع أطراف أخرى، دون أن يلغي أحدها الآخر بالضرورة. أما من جعل هويته العقدية اللادينية أو غير الإسلامية قوة طاردة للهوية الحضارية العربية الإسلامية، فقد احتكم لـ"الدوغما" بدلاً من النظر المعرفي، ووقع في الاغتراب والتغريب وتشتت الانتماء. وربما بحث عن مخرج "أيديولوجي" باقتراح هوية "أقلّوية" بديلة تتجرد من الإسلام، بل كذلك من هوية عربية لا يمكن تفريغها من مكوناتها الحضارية الإسلامية. فمن ذلك اصطناع هوية فرعونية، وأخرى فينيقية، وأخرى سوريّة تنغلق على الهلال الخصيب. ولا أدري كيف يمكن تشييد هوية فرعونية مثلاً، بدون لغة فرعونية متواصلة من الماضي إلى الحاضر، بكل ما تعنيه اللغة من محمولات ثقافية تشكل الوعي والنظرة العامة للحياة، وبلا تراث فرعوني في الأدب والفكر والفلسفة يمكن الوصل معه والبناء عليه! ذلك هو الفرق بين نخب التغريب الإقصائية، وبين مفكر وعالم فذ مثل إدوارد سعيد دفع عن الحضارة العربية الإسلامية بمنهج معرفي فلسفي اجتماعي عميق، كما لم يدفع باحث مسلم، وهو الذي لا يمكن اتهامه بالأصولية الإسلامية!! ولا شك عندي أن مثل هذا المفكر يحرج دعاة التغريب ومن يعيد إنتاج الخطاب الاستشراقي ويروّج لثقافة كره الذات العربية الإسلامية. أما كاتب هذه السطور فقد أنفق شطراً كبيراً من نشاطه الفكري عبر مسيرة الحياة يجادل عن العروبة والإسلام غلاة التغريب والعلمانية الفجة عن يساره، ويجادل عن العروبة والإسلام أيضاً وقيم الحرية والتعددية والمواطنة المتكافئة غلاة الفكر الديني المتطرف عن يمينه! وفي كلا الحالين كان يصدر عن مرجع الهوية الثقافية العربية الإسلامية، وعن مصادر إيمانه كما يتعقل نصوصها، وعن مراجعه المعرفية العقلانية، وعن مقته الفطري للزيف والادعاء النخبوي والزعم باحتكار الحقيقة المطلقة على أي جنب كانت. ورب قائل يقول محتجاً للدين أو محتجاً عليه: ولكن الحقيقة الدينية عند مَن يؤمن بها هي بالضرورة حقيقة مطلقة، وهي كذلك حقاً عند مَن يؤمن بالوحي والتنزيل، وأنا منهم، ولكن المشكلة ليست هنا، فكذلك الماركسي يعتقد يقيناً أن كل الأيديولوجيات وعي زائف، إلا الفكر الماركسي العلمي الذي يطابق حقائق الواقع الموضوعي. المشكلة حقاً تتمثل في نفي سُنة الاختلاف والتعددية والتدافع، بين العقائد وفي إطار العقيدة الواحدة، فترى من يطابق بين الوحي وفهمه للدين، فلا يقر بأن نشاط التأويل والاجتهاد يتوسط بين الوحي والوعي، فإذا تحدث أحدهم فإنما ينطق عن الوحي، ومن خالفه الرأي فقد خالف أمر الله وإن كان المخالف مسلماً مؤمناً ملتزماً، ومن ثم ينصب نفسه ناطقاً باسم الله، دون أن يعي أنه بذلك ينازع الله سلطانه في القضاء بين الناس وإنزالهم منازلهم من الجنة والنار، قبل يوم الحساب الذي اختص الرحمن به نفسه حصراً فقال: "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (الرعد: 40)، وقال سبحانه: "إنّ إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم" (الغاشية: 25 و26)، وقال: "الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" (الحج: 69). والحق أن سُنة الاختلاف جزء من الحقيقة الدينية نفسها، فهي شرط إنساني وعلة وجودية كما شاء الله لها أن تكون: "ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..." (هود: 118 و119)، فمن عاند سنة الاختلاف فقد عاند المشيئة الربانية التي وجهت أيضاً بأن يوظف الاختلاف في التنافس على استباق الخيرات بين المختلفين وسيلة للإقناع والتبليغ، لا على النفي المتبادل: "لكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ" (المائدة: 48). كذلك فإن الاختلاف ناموس ينتج عملية التدافع (لا التفاصل ولا الصراع) المسؤولة عن تطور المجتمع وتحضره وحيويته الدائبة: "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ" (البقرة: 251). وهل يكون التدافع إلا بين مختلفين؟ ووجود قوى متدافعة من شأنه ضبط الشطط والطغيان الذي يأتي مع تفرد طرف واحد بأسباب القوة والتمكن، مهما تكن عقيدته، فلا يحتاج إلى تقييد أفعاله واندفاعاته وغرائزه خشية العواقب وردود فعل القوى الأخرى؛ إذ لا يحد سلوكه رجاء من غيره ولا خوف منه، وذلك بعض ما أفهمه من الآية الكريمة "كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى" (العلق: 6 و7). فالاستغناء هنا لا ينحصر في معنى تراكم الثروة، وإنما يعني كذلك استغناء الإنسان عن غيره، ومن ثم غياب شروط التفاوض الاجتماعي بين الناس على حاجاتهم المتعارضة والمتبادلة في آن، وفي إطار شبكة متداخلة من الاعتمادية المتبادلة التي تفرض الاعتراف بالآخر والتشارط معه. وهو ما يضبط اندفاعات الشطط والطغيان بحسابات المنافع والأضرار، وهذا الفهم يتطابق مع الأطروحة الرئيسية التي توصل إليها عالم الاجتماع الكبير إلياس نوبرت في كتابه الكلاسيكي بعنوان "عملية التمدين" The Civilizing Process الذي يرصد فيه عملية التحضر التاريخية التي مرت بها المجتمعات الأوروبية من العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة. ويخلص إلى أن تطور هذه العملية على صعيد تهذيب السلوك وكبح الاندفاعات العدوانية قد اقترن سببياً بنمو الدولة المركزية وبسط سلطتها العسكرية والاقتصادية على الأطراف الإقطاعية التي كانت قبل ذلك تتمتع بقدر واسع من الاستقلالية والاكتفاء الذاتي بعيداً عن سلطة الملك وحكومته، وقد صاحب نمو الدولة المركزية ترابط المجتمع الواسع في شبكة من الاعتمادية المتبادلة في الوظائف والأدوار المهنية والإنتاجية والحاجات والضرورات تكاملاً وتبادلاً. وعزز من ذلك ارتفاع وتيرة التخصص الوظيفي، ورافقه كذلك تطور مكافئ في آليات الضبط القانوني التي يصعب الانفلات منها، والرقابة الاجتماعية الأخلاقية والسلوكية، كل ذلك فرض على الفرد أن يضبط سلوكه ويهذب غرائزه ويكبح اندفاعاته الفردية وتصرفاته الفجة في ظل العواقب المتوقعة التي يمكن أن تهدد حاجاته المشروطة بالآخرين، إن لم تهدده بالعقوبة القانونية القاسية، فكان ذلك التطور سبباً أساسياً في الارتقاء المدني والتوافق الاجتماعي. وإذاً فإن "التدافع" ينطوي على معنى الاختلاف في إطار الائتلاف، والاعتراف بالآخر والتشارك الوجودي معه بما يحدّ من شطط الإنسان وطغيانه إذا ما استغنى عن غيره فأمن ردود فعله، وليست الديمقراطية في نهاية المطاف إلا تنظيماً سياسياً لعملية التدافع في إطار قانوني سلمي ملزم للأطراف المتدافعة، وأما الإقصاء والاستغناء فهما مادة الاستبداد، ونفي الآخر المختلف والمخالف إلغاء لسنة التدافع التي لولاها لفسدت الأرض! حريّ إذاً بمن أنفقت شطراً كبيراً من جهدي الفكري أجادلهم عن يميني وعن شمالي أن يتمثلوا هذه الحقائق فيكفوا عن ادعائهم احتكار الحقيقة المطلقة ومحاولة فرضها على الآخرين بأشكال الضغط والإكراه المختلفة، وأن يتوقفوا عن محاولة إثبات الذات بإنكار الآخر، وتسويغها بوصمه، والاحتجاج لها بعورات الآخرين بدلاً من قيمتها الذاتية في استباق الخيرات، وأستطيع بكل ثقة أن أعدهم بأن الآخر لن يختفي على كل حال، ولن تخلو الأرض لأي فريق منهم، ولن يتحقق له الفردوس الأرضي الذي يحلم به حيث لا يرى غير صورته في مرايا الكون، وما فردوسه الأرضي المتخيل إلا جحيم الآخرين! فهل ينتهي الجميع إلى مقولة سارتر: "الآخرون هم الجحيم"؟! وإذا كنا جميعاً آخرين بالنسبة إلى غيرنا، فلا ثم في الأرض إذاً إلا الجحيم! أعترف بأن هذه المعاني، التي تبدو لي الآن أمراً مفروغاً منه، لم تكن شاخصة بوضوح في وعيي حين بدأت أوغل في التدين متدرجاً منذ السنة الثالثة من دراستي الجامعية الأولى بالجامعة الأردنية. وكما ذكرت سابقاً لم أكن قبل ذلك خلياً من الإيمان، وإن كنت منجذباً إلى الفكر اليساري فترة من الوقت. وأحسب أن ما جذبني إلى الفكر اليساري جملة من الدوافع والمؤثرات، فمنها مفاهيم العدالة الاجتماعية التي لم تفارقني في حياتي قط، مهما تكن اللغة الفكرية التي تتمثل بها، ومنها بالطبع عداء الإمبريالية وأجواء الثورة العالمية التي ملأت العالم برموز الكفاح النبيل، وقد بدا في ذلك الحين أن هذه المعاني قرينة اليسار بصفة خاصة، فلا يمكن الفصل بينهما، ولا تكاد تجد لغة أخرى غير لغة اليسار للتعبير عن تلك المعاني. وفي ظل الحرب الباردة بدا أيضاً أن العالم منقسم إلى فسطاطين لا ثالث لهما: فسطاط الإمبريالية والرأسمالية، وفسطاط اليسار الثوري، وتلتحق بكل منهما جملة من المعاني: فالصهيونية والاستغلال وقهر الشعوب ونهب ثرواتها، والتبعية والرجعية والعمالة والاتجاهات اليمينية ومؤامرات المخابرات المركزية الأميركية والتدخل العسكري المباشر وغير المباشر، والفكر البورجوازي والتضليل الأيديولوجي كل هذه تلتحق بالفسطاط الأول، فسطاط الإمبريالية والرأسمالية. أما فسطاط اليسار الثوري في المقابل فتلتحق به معاني التحرر والعدالة الاجتماعية والثورة وتضامن الشعوب المقهورة والتقدمية والتفكير العلمي الواقعي المتحرر من أضاليل الفكر البورجوازي وفلسفاته المثالية. أما إذا قلت: يسعني أن أكون في صف العداء للإمبريالية وما يلتحق بها والانحياز إلى مطالب التحرر والعدالة، دون أن أنتسب إلى المرجع العقدي لليسار الثوري الماركسي، ودون أن أتخلى عن مرجعي العروبي الإسلامي مثلاً أو عقيدتي الدينية، فلسوف تجد "الدوغما" الأيديولوجية تحاصرك بالأحكام القطعية الجاهزة، فإن لم تحملك على الفسطاط الآخر، وضعتك في منزلة ما بين المنزلتين قرباً أو بعداً من إحداهما، فأنت لم تتحرر تماماً من الفكر البورجوازي المثالي الذي يغذي الوعي الزائف، أو أن فكر البورجوازية الصغيرة المتردد المتأرجح المتناقض المتقلب بطبيعته يقصر بك عن بلوغ الموقف الثوري الجذري الكامل، أو أن معتقداتك الرجعية تصب في نهاية المطاف -بوعي منك أو بغير وعي- في مجرى الفسطاط الآخر حتى لو استشهدت في مقاومته! الثوري الكامل هو الماركسي الكامل حصراً حتى لو كان إسهامه في الكفاح المسلح محدوداً وقاعدته الشعبية بين الكادحين الذين ينطق باسمهم صغيرة، وكانوا لا يفقهون حديثاً عن المادية الجدلية والمادية التاريخية والبورجوازية الكبيرة والصغيرة والكومبرادور والماركينتيلية، وتحركهم معاني الجهاد والاستشهاد أكثر من وعود الفردوس الأرضي الذي تعده حركة التاريخ الحتمية للكادحين. وإذ تتغذى "الدوغما" الفكرية بنقيضها، فإن التيارات الإسلامية والمتدينين الملتزمين بعامة جهدوا في تشكيل بعض مواقفهم ومفاهيمهم السياسية في سياق ردة الفعل للغة اليسار التي تعاملوا معها باعتبارها "رزمة" واحدة إما أن تأخذها بجملتها أو ترفضها بجملتها، وذاك ما أصر عليه اليسار نفسه! فإذا كان اليساريون يلحون على اتهام التاريخ الماضي بالمسؤولية عن تخلف الحاضر فلنتجه إلى "أمثلة" الماضي وتنزيهه على الجملة وتفسير ما آلت إليه أوضاع الأمة من الضعف والهزائم والتبعية بالتخلي عن ذلك المثال الذهبي القديم؛ وإذا كان اليساريون يفسرون حركة التاريخ تفسيراً مادياً خالصاً، فلنركز نحن على دور القيم والأخلاق والأفكار المجردة، وإذا كان اليساريون يتحدثون عن صراع الطبقات فلنقلل نحن من أهمية ذلك ودوره في التاريخ، ولنتحدث بدلاً من ذلك عن صراع الأفكار والعقائد، وإذا كان اليساريون يركزون على التبعية الاقتصادية للمركز الإمبريالي الرأسمالي، فلنركز نحن على الغزو الثقافي التغريبي الذي يهدد هوية الأمة، وإذا كان اليسار يميز بين اليهودية بما هي دين والصهيونية بما هي مشروع استعماري استيطاني ويرى أن الصراع معه صراع حقوقي، فلنتحدث نحن عن اليهودية العالمية ومؤامراتها السرية وعن اليهودي بما هو "ماهية" ثابتة لا تاريخية، وعن الصراع معه بما هو صراع ديني! أما إذا قلت هذه المرة: ألا يسعني أن أكون مسلماً مؤمناً ملتزماً وفياً لهويتي العربية الإسلامية، دون أن يضر بإسلامي وإيماني أن يشمل مصطلحي الفكري مفردات مقاومة الإمبريالية والتبعية الاقتصادية والعلاقة بين الأطراف والمركز والصهيونية بما هو مشروع استعماري يتعرف بالغزو والاغتصاب والاستيطان والإحلال لا بدين الغزاة، والإقرار بدور العامل الاقتصادي المادي في الصراعات وحركة التاريخ إلى جانب عوامل أخرى، والانحياز للطبقات المسحوقة ضد الاستغلال الرأسمالي، ومراجعة التاريخ الماضي بنظرة نقدية لا تفضي إلى العدمية وكره الذات من جهة، ولا إلى "أمثلة" التاريخ ومطابقته مع مثال الوحي من جهة أخرى؟! هنا أيضاً سوف تجد الدوغما المقابلة تحاصرك بالأحكام القطعية الجاهزة لتصمك بالتلفيق والتوفيق والانتقائية والتناقض، فأنت امرؤ فيك شيء أو أشياء من الجاهلية! أما القول المأثور (الحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق الناس بها) فلا يحضر في هذا السياق. فلا عجب إذاً إذا اخترت أن تكون مفكراً حراً بعيداً عن "الدوغما" أن تجد نفسك تجادل عن يمينك ويسارك، فأنت إسلامي بين اليسار، ويساري بين الإسلاميين! كذلك كانت الأجواء الفكرية السياسية حينما بدأت أميل إلى التدين تدريجياً في ذلك الزمان من سنوات الستينيات المتأخرة، ولم تكن رحلة سهلة، فالنادي السياسي والثقافي والأدبي الذي أحمل عضويته بكل ما يأتي معها من الامتيازات المعنوية لم يكن مضيافاً لمظاهر التدين، كما قلت سابقاً، بل ربما كان قاسياً في أحكامه القيمية على المتدين. وما كان المتدين نفسه ليأنس بلغة العداء للدين والمتدينين فيشعر بالغربة، وربما اتهم نفسه بالنفاق والازدواجية، كنت لا أزال "فتحاوياً" نشطاً، وزعيماً للحركة الطلابية وعضواً في الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، وشاعراً معتبراً في الوسط الأدبي والنقدي، ونجماً متألقاً في الوسط الجامعي تؤهله كل تلك الصفات للفوز بإعجاب الطالبات اللواتي لم ينحسر إعجابهن مع ارتباطي بإحداهن في علاقة عاطفية ملكت عليَّ نفسي ووجداني! فكيف لشاب طموح حقق هذا كله وهو بعد فتى جامعي أن يجازف بتلك الصورة الجذابة المتألقة وامتيازاتها المعنوية بالتحول إلى الالتزام الديني الذي سيعيد تعريفه وتصنيفه في نظر جمهوره ومعجبيه ومحبّيه، حتى في نظر الفتاة التي استوطنت قلبه وروحه وشعره ومخيلته وفجرت ينابيع إلهامه؟! ولكن أعانني عليها طبع ينفر من الزيف والنفاق والمداهنة والمباطنة والازدواجية والادعاءات الكاذبة، وذات حرة تأبى أن تكيف حياتها وظاهرها وفقاً لمعايير الآخرين وتعريفاتهم وتوقعاتهم، وأن تنحشر في قوالب جاهزة، وأن تقايض مبادئها بأي مكاسب وامتيازات مادية أو معنوية، فالمكسب الأعظم هو أن تعيش في سلام مع ذاتك، حتى لو كان ثمنه استدبار الآخرين لك. فأي فرق بين مَن يساوم على مبادئه من أجل تلك المكاسب المعنوية التي تمنحها وتمنعها سلطة خطاب ثقافي تحتكر مفردات الثورة والحداثة والتمرد، وبين من يساوم عليها نفاقاً للسلطان أو طلباً للمنافع المادية! ثم أعانني عليها المصدر الديني نفسه، لكأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخاطبني شخصياً؛ إذ يقول: "من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب سخط الله برضا الناس، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس"، فاخترت الثانية، وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن هذا لم يحدث في وثبة واحدة، وإنما كان عليَّ أن أغالب نفسي على أهوائها وأغراضها وكبرها النخبوي المتواري خلف حجاب اللغة الإنسانية النبيلة، فحتى حين، ظل الدين مستخفياً في ضواحي وعيي ووجداني، لا يستعلن في شعائر العبادة إلا قليلاً، فلم أكن منتظماً في صلاتي، ولكن، ربما حضرت صلاة الجمعة بين الفينة والأخرى، ثم لا أجد في نفسي حرجاً من أن أدعها إلى حين. ولقد أثوب إلى الصلاة في مسكني فجأة إذا حزبني أمر من الخوف أو الرجاء، أطلب عون الله وألتمس الطمأنينة بذكره والتقرب منه، ولا تكون إحدى الصلوات الخمس المفروضة، فأقوم من الليل أصلي ما تيسر ركعتين إثر ركعتين، حتى يجتمع منها عشرات تصل أحياناً إلى المائة في الليلة الواحدة، وفي أثناء ذلك أجتهد في الدعاء إلى الله فيما أنا فيه من شأن، فلا يخيبني، وأنا الذي لم أقدم بالصلاة المفروضة قبل تلك النافلة، ولم أعزم بعد على الانتظام بها عقب ذلك، ولعله لو اطلع على عملي هذا بعض الشيوخ التقليديين لأفتى بأن صلاتي تلك تذهب سدى، حتى ألزم الصلاة الواجبة الموقوتة أولاً، ولكن الله تعالى أجل وأكرم من أن يفوض الناس التصرف بخزائن رحمته، وإذن لأمسكوا خشية الإنفاق! وفرق كبير بين مقبل بوجهه ومدبر بظهره وإن التقيا في الموضع نفسه من الطريق، فمناط الأمر النية والوجهة، فكيف لو عرف أولئك الضرب من الشيوخ أني كنت أستعين أحياناً على تلك الصلوات الطويلة الطارئة بشيء من الموسيقى الكلاسيكية الرفيقة أشغل بها جهاز الأسطوانات قبل دخولي في الصلاة على درجة وطيئة من الصوت، حتى لكأنها تأتي من مكان بعيد، فتعينني على التأمل والخشوع وطرد الملالة مع طول الصلوات وكثرة الركعات! وإذاً لعلا نكيرهم وقال قائلهم: تلك لعمر الله السوءة الكبرى! أتجعل مزمار الشيطان حاديك في صلاتك تلك؟! ولكن الله أجل وأكرم وأحلم وأعلم، فكيف إذا عرفوا فوق ذلك أن الهم الذي حزبني حتى التجأت إلى الله فيه مستعيناً بالصلاة والدعاء، ربما كان أمراً يتعلق بحياتي العاطفية؟ لك أن تتخيل ردة الفعل حينئذ من قوم يؤثّمون الحب مهما يكن عفيفاً، ولكن الله أجل وأكرم وأحلم وأعلم، فلم يطل الوقت حتى تمكن الدين في عقلي ووجداني وجوارحي.. أو قُل: حسن إسلامي وأقمت على الطريقة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :