القاهرة: الخليج في نهاية عام 2016، وفي الموعد السنوي لإعلان الفائز بجائزة نوبل في الأدب، خرجت سارة دانيوس - سكرتيرة مؤسسة نوبل - على الأوساط الأدبية العالمية، لتفاجئ الجميع بالدهشة والصدمة، حد الاستنكار، قالت سارة عن الفائز بوب ديلان: لقد استحق الجائزة لأنه أوجد تعبيرات شعرية جديدة في الأغنية الأمريكية التقليدية، فهو شاعر عظيم، ضمن التقليد الشعري للناطقين بالإنجليزية. كثيرون رفضوا فوز بوب ديلان بالجائزة الكبرى، رغم إيمانهم بما رددته سارة دانيوس، هي وغيرها من أعضاء الأكاديمية السويدية، التي رأت أن ديلان يمثل رمزاً، تأثيره عميق في الموسيقى المعاصرة وهو في الأغلب أعظم شاعر على قيد الحياة، وكان هناك توافق رائع في قرار اللجنة لمنح ديلان الجائزة. إذن ما الذي قدمه بوب ديلان للقصيدة الأمريكية حتى يوصف بأنه أعظم شاعر على قيد الحياة؟، هكذا تسأل د. هويدا صالح تقديمها للكتاب الصادر عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع وبردية للنشر تحت عنوان أطرق باب السماء، وهو عبارة عن مختارات من أشعار ديلان ترجمها إلى العربية الحسين خضيري، تقول د. هويدا صالح إجابة عن هذا السؤال: لقد قدم ديلان تفسيراً جديداً لتقاليد كتابة الشعر الأمريكي، ثمة تجسيد لقيم فنية استحق عنها الجائزة، غير أن اكتناه هذه العبارات بما تختزنه من دلالات يحيلنا إلى أنها تتصل بمنتج ثقافي شائع كمسوغ لمنح الجائزة. تعني د. هويدا صالح بذلك الكتابة الشعرية الخاصة بالأغاني أو التي تتخذ من منصات الغناء أداة للتأثير، وهذا يعني أن ثمة تأثيراً واضحاً لهذا النوع من الكتابة في ثقافة أمست لا تعترف كثيراً بالحدود، علاوة على أنها ترى أن الفنون والآداب لم تعد تحتفي بالتخصيص أو التوصيف النوعي الأجناسي النخبوي، فهي تنظر للأثر الذي أحدثته أغاني ديلان، بل وتنظر إلى أدائه الفني الذي استطاع أن يضيف تقاليد شعرية جديدة في الغناء. وهذا يعني أن ثمة تكويناً جديداً لمدرسة ابتكرها بوب ديلان استطاعت أن تشق طريقها في المشهد الغنائي الأمريكي، إن ثمة نموذجاً لخصوصية محلية تتصل بالثقافة الأمريكية التي لا يمكن أن تتجاهل حجمها، وبهذا فإن لجنة الجائزة استجابت لأثر هذا الحضور الغنائي في اللغة الإنجليزية أو الثقافة الأنجلو أمريكية. أيا كان الأمر فإنها المرة الأولى التي تشذ فيها اللجنة عن قواعدها وتغض الطرف عن الشعراء النخبويين، بينما تمنح جائزتها لشاعر كتب الأغنية المتمردة، وصار رمزا لجبهة ثقافة الرفض، وأيقونة المهمشين والمضطهدين وضحايا التفرقة العنصرية والحروب، بتعبير المترجم الحسين خضيري. وكما يرى المترجم فإن بوب ديلان المولود في 24 من مايو/أيار سنة 1941 موهبة فطرية وقيثارة وحقيبة ثياب، وبعض طموحات، هي كل ما تسلح به، للانتقال إلى عالم الأضواء والمشاهير، إلى نيويورك، ودخل معترك الحياة الثقافية، والتقى شعراء حركة البيت في نوادي الجاز، حيث كانوا يلقون قصائدهم، وأدرك فيه آلن جينسبرج عبقرية موسيقية نادرة، وشجعه على نبرة الاحتجاج في كتاباته. امتازت أغاني بوب ديلان بنبرات الحزن والشجن الذي يعبر عن هموم المشردين والمضطهدين، ولذا لقيت أغانيه رواجاً كبيراً منذ أن أصدر ألبومه الأول عام 1962، فقد باع إلى الآن أكثر من 100 مليون أسطوانة، واختيرت بعض أغانيه ضمن أحد أهم 100 أغنية على مدى التاريخ الإنساني، ولأنه جاء من أوساط عمالية أمريكية، فقد تبنى أحلام العمال وأضحت أغانيه نشيداً لحركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين والحركة المناهضة لحرب فيتنام وحركات الاحتجاج الشبابية. تدعونا د. هويدا صالح إلى فهم السياق الثقافي والسياسي العام الذي صعد فيه نجم بوب ديلان، فبداية السبعينيات لم تشهد فقط تحولات سياسية كبرى، بل صاحبها تحولات اجتماعية وثقافية كثيرة، ما بين تأثيرات وإخفاقات أمريكا في فيتنام وبدايات الحرب الباردة، ثم ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968، لذا فقد آمن بقوة بدور المثقف الملتزم، بل حرص على تبني النظرية الأخلاقية للفن، بتعبير هويدا صالح، فهو يرى أن الفن عليه أن يتبنى القيم العليا التي تدعم وجود المجتمع صامداً في مواجهة تغييب الهوية والانسحاق أمام قيم العولمة. إن بوب ديلان مارس موقفاً وانحيازاً جمالياً في قصائده الغنائية، كما تجلت فيها مواقفه من الحروب، والدفاع عن المهمشين والمضطهدين وهذا ما يعني أنه ليس مجرد كاتب أغان، إنما هو شاعر انحاز لمنهج تعبيري، رأى فيه القدرة على التأثير، وبهذا فقد كرس ديلان موهبته بالكتابة في مجال الأغاني لصالح قضايا محورية مهمة في الثقافة الأمريكية. وكما تشير د. صالح فإن بوب ديلان يتمتع بحس شعري رفيع برهنه عبر كتابته لأغانيه المحملة بالتناص التاريخي والشعري، الميثولوجيا والإيقاع الخاص حتى إن الناقد والمنظر الأدبي اللامع كريستوفر ريكس ضمنه كأحد أعظم الشعراء في التاريخ إلى جانب ملتون وليكتس، بوب ديلان ليس مجرد فنان أو كاتب أغان فحسب، وإنما هو وعي قائم بذاته، فهو يتبع الحياة بتكوينها وإعادة تشكيلها، والذي يكفل لها أن تبقى في حدود التأثير وعدم الانكفاء، مع الحرص على تجسيد وعي جمالي في عالم بات يمزج الثقافة بروح العصر المتسارع.
مشاركة :