لا تكاد الأدلة تتوقّف عن كون التفاعل بين البعدين الاجتماعي والتقني في العوالم الافتراضيّة للإنترنت، هو طريق باتّجاهين. ويذكّر الأمر بأن «أوتوستراد المعلوماتيّة السريع» Informatics Super Highway الذي رُوّج له في بواكير زمن الإنترنت، صار له «رديف» لا يقلّ عنه في التأثير، إذ صنعته أصابع الناس والمجتمعات عبر التفاعل اليومي الكثيف مع الشبكة العنكبوتيّة الإلكترونيّة. لا يحتاج الأمر إلى أبعد من التأمّل في وصول الرئيس الشعبوي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض محمولاً على صهوة استعمال ماكر (ربما تآمري، لا فرق) للـ «سوشال ميديا». ولم يتغيّر شيء في تقنيات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن أيادي وعقول دبّرت أمراً، واستهدفت شرائح معيّنة من الشعب الأميركي كان يُعاني الأمرّين من ارتدادات العولمة على أميركا، خصوصاً في الولايات المسّماة «حزام الصدأ» التي كانت مرتعاً للصناعة التقليدية، ثم ضُرِبَتها عصا العولمة فنقلت المصانع إلى الصين والهند وبلدان نامية. الهجرة إلى «تويتر» أعوام قليلة من الحراك العنكبوتي، يؤرّخها بعضهم باندلاع «ثورة يناير» وآخرون بالحراك الرقمي- السياسي لـ»حركة 6 أبريل» (2006)، كانت كافية لنقل العلاقة بين التقني والاجتماعي في مصر، من حال إلى ما يغايرها كليّاً. وفي المقابل، صار الشارع أيضاً أشد تفاعلاً مع الواقع الافتراضي للـ «سوشال ميديا»، بل أن معظم الظواهر التي تتدفق في الفضاء العام، لا يصعب إيجاد الخيوط التي تربطها بتقلّبات المحتوى في «فايسبوك» و «تويتر». ثمة مفارقة بارزة. في السنوات التي تلت «ثورة يناير» مباشرة، هجر شباب مصر الـ «فايسبوك»، بأثر من تدفّق كهول وشيوخ انشدّوا إلى القوة التي يستطيع منحهم إياهم، إضافة إلى إعطائهم إحساساً بأنّهم ليسوا غرباء عن التقنيّة التي يتفاخر بها الجيل الشاب. وظهرت فجوة ضخمة تفصل بين الذائقة السياسيّة والثقافيّة لتلك الأجيال. وتدريجيّاً، سيطر الأكبر سنّاً على «فايسبوك» في مصر، بالترافق مع رحيل الشباب [وهم سمّوا ذات مرة «شباب فايسبوك»] إلى مواقع تكتفي بالكلمات القليلة كـ «تويتر» و«سناب شات» Snap Chat. وأحدث ذلك نقلة أخرى في صراع الأجيال ضمن الواقعين الافتراضي والفعلي سويّة. يأتي مثل على ذلك في أربع أسر تنتمي إلى الطبقتين المتوسطة والعليا، ولكل منها أبناء وبنات في أعمار المراهقة أو الشباب، مرت كلّها بمراحل متطابقة. وفي المرحلة التي تلت «ثورة يناير» مباشرة، استغرق الأبناء كلية في أغوار الإنترنت في المرحلة التي تلت «ثورة يناير» مباشرة، فيما التزم الأهل الجانب المنتـــقد على الوقت المهدور عــلــى «فـايســبوك» ومنـــاظراته الملتهبة. وتدريجيّاً، انتقل الأمر من لهب الشباب إلى جمر أصحاب الشعر الشائب وعصبيّتهم المعروفة، إذ خلصت دراسة عنوانها «الاختلافات العمريّة في التعامل مع الضغوط والتأقلّم» نُشِرَت في دورية «جمعية علم الشيخوخة الأميركيّة» قبل سنوات، إلى أنه كلما تقدّم البشر في العمر، تقلّص هامش تقبّل الاختلاف في الآراء والمواقف والرؤى. وكذلك تتفاقم حدّة الرفض كلما انخفض عمر المختلفين معهم. وإذا طُبّقت تلك الخلاصة مصرياً، فلربما فسّرت تحوّل الاختلاف في وجهات النظر بين الآباء والأمهات من جهة وأجيال الأبناء من الجهة الثانية، حرباً ضروساً تفقد فيها الصداقات على «فايسبوك» قيمتها، بل لا تجدي فيها نفعاً. وفي 2017، بدا استرجاع ذكريات «ثورة يناير» أشبه ببكائيّات شبابيّة على أطلال الثورة، مقابل تهليلات الكبار واحتفالاتهم بـ «انقضاء الغمّة»، مع وجود استثناءات في الجانبين. المفارقة العميقة تكمن في أنّ البكائيّات سادت منصة «تويتر»، فيما ازدهرت التهليلات على «فايسبوك»، ما رفع سوراً رقميّاً بين الجيلين المصريّين. وفـــي شتــاء 2017 القارس، تظهر تغريدات «#جمعة - الغضب» و «#موقــعـة - الجمل» و «#محمد - محمود» و «#كانوا - ديــابــة - وكـنّا - أسود» و «#الميدان - أطهر - مكان» على «تويتر». وفي المقابل، تشهد منصّة «فايسبوك» قصفاً مدويّاً من أجيال تقدم بها العمر، عبر تدوينات أقرب إلى التعليقات الساخرة من شعارات «ثورة يناير» كـ «الطهارة الثورية» و «سلمية سلمية»، مرفقة بصور الحرائـــق التي دمّرت مبـــاني ومؤسّسات، أثناء تلك الثورة، يظهر فيها ملثمون يرفعون علامات النصر. ومثلاً، كتبت إحدى «رموز» الثوّرة من الشباب في صفحتها على «فايسبوك» أنّه «في مثل هذا الوقت، وفي هذا المكان، اجتمع شعب مصر كله في الميدان». وسرعان ما ردّ عليها أحد «الكبار» بتدوينة تقول: «في مثل هذا الوقت، وفي هذا المكان، اجتمع أشرف وأكرم وعبد المجيد ومديحة و...نرجس»، مع ملاحظة أن الكلمة الأخيرة تتضمّن اتّهاماً للشباب بالوقوع في النرجسيّة. ويبدو أن الشقاق العنكبوتي صعب المراس، بل يستعصي حتى على مجرد الحوار. كيف يتفاهم الطرفان فيما مصادر المعلومات والأخبار، متضاربة تماماً؟ التجربة المصر ية بوصفها نكهة عربية رائجة ثمة أرقام مهمة عن الـ «سوشال ميديا» عربياً ومصرياً، ربما تساهم في إلقاء مزيد من الضوء على حروب مواقع التواصل الاجتماعي، بمعنى أن حال مصر يمكن اعتبارها نموذجاً لنكهة منتشرة في بلدان عربيّة كثيرة. ويشكل مستخدمو «فايسبوك» في مصر 24 في المئة من مجموع مستخدميه عربياً. وارتفع عدد مستخدمي «فايسبوك» في مصر منذ كانون الثاني (يناير) 2014، بأكثر مما فعل في دول المنطقة التي شهدت انضمام 2،6 مليون مستخدم جديد إليه. ويعتقد قرابة 64 في المئة من المصريين أن الإنترنت قدمت لهم فرصاً تعليمية جديدة، فيما لاحظ 62 في المئة منهم أنها ساعدتهم في الترابط مع آخرين، إضافة إلى تنشيط مستوى فاعلياتهم اجتماعياً. وتنشط غالبية المصريين المتصلين بشبكة الإنترنت على مواقع الـ «سوشال ميديا»، وتلي ذلك غايات أخرى كالبحث عن المعلومات (خصوصاً عبر «غوغل»)، ومعرفة الأخبار، والبريد الإلكتروني، وتحميل البرامج، والتسوق عبر مواقع التجارة الإلكترونية. ابحث في سنوات العمر وفق «استطلاع الشباب العربي السنوي» لعام 2016، يستقي 63 في المئة من الأجيال الشابة في 6 دول عربية (بينها مصر) الأخبار من التلفزيون، انخفاضاً من 79 في المئة في 2011. ويشارك ما يزيد على 52 في المئة من الشباب في نشر الأخبار وإعادة نشرها مع أصدقائهم على الـ «سوشال ميديا»، الأمر الذي غالباً ما يوصف بعبارات كـ «المشاركة الاجتماعية» و «الأخبار المتداولة اجتماعياً» بين الشباب. كذلك لا يعتبر الصحف مصدراً للأخبار سوى 17 في المئة ممن هم بين الـ18 والـ24 عاماً، مع تذكير بأن النسبة عينها تعدّت الـ62 في المئة في 2011. في المقابل، ما زالت غالبية من كبار السن تعتمد على الصحف وأقنية التلفزة مصادر للأخبار، بل تستقي منها الأخبار والمعلومات التي تدوّنها على الـ «بوست» في صفحاتها على «فايسبوك». وبقول أشد وضوحاً، لا يعتبر الكبار الـ «سوشال ميديا» مصدراً صالحاً للأخبار والتحليلات، وتالياً فهم لا يميلون إلى مشاركتها ونشرها وإعادة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي. ويبدو الشرخ أكبر إذا عُطِف على واقع أن النبرة المسيطرة على عدد كبير من القنوات التلفزيونية المصرية، تسعى إلى التقليل من شأن النشاط السياسي الشبابي العنكبوتي، وقصف مواقفهم الميالة غالباً إلى الرفض والاعتراض. وكخلاصة، يؤدي التفاعل بين البعد الاجتماعي مصرياً، بمعنى صراع الأجيال على النحو المبين أعلاه من جهة، والمعطى التقني المتصل به المتمثل بوقوف جيلين على منصتين رقميتين «متواجهتين» («تويتر» للشباب الغاضب، و «فايسبوك» لكبار السن الراضين)، إلى تزايد حدة صراع بات الرقمي فيه مندمجاً مع الفعلي. وفي المقابل، هناك من يدقّق في خطوط الفصل السابقة، ويتوصل إلى أنها تمتد إلى أغوار أشد بعداً، إذ يشير إلى أن الانقسام عينه ينطبق على صراع الفئات العمرية ضمن التيارات الدينية، بل حتى بين الشرائح الشابة التي تضع الثورة والاحتجاج نصب عيونها دوماً من جهة، والمنكفئين إلى هموم حياتهم اليومية القاسية من الجهة الثانية. شرخ رقمي لم يتغيّر شيء في «وادي السيليكون» ولا مسار أعماله وابتكاراته، لكن الشركات الكبرى في المعلوماتية فيه تبدو كأنها منخرطة في حرب «صامتة» ظاهرها ضد ترامب، فيما عمقها يمتد إلى الشرائح التي حرّكتها الـ «سوشال ميديا» لمصلحة الرئيس الصاخب. وعندما أصدر ترامب قرارته التمييزيّة بحق مواطني 7 دول إسلاميّة مانعاً إياهم من دخول أميركا وأردفها بإجراء عام عن دخول اللاجئين عموماً، رفعت دعوى قانونيّة ضده نهضت بها الشركات الكبرى للمعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة كـ «مايكروسوف» و«فايسبوك» و«آبل» و«تويتر» و«أمازون.كوم» وغيرها. هل كان عبثاً استخدامه الذي صار شهيراً ومتفرّداً، لموقع «تويتر» بتغريدات لم تكف عن هزّ العوالم الفعليّة والافتراضيّة معاً؟ ألا يعني ذلك أيضاً صحة القاعدة الذهبيّة المعروفة بأن المحتوى هو الملك الحقيقي في الإعلام العام Content is the King of Mass Media؟ وإذا نُظر إلى العلاقة التفاعليّة بين التطوّر التقني من جهة والاستخدام الاجتماعي له (بمعنى المضمون الذي يصنعه الناس يوميّاً بأيديهم وربما من دون دراية بتأثيره العميق في التقنيّات)، يغدو مستطاعاً وضع الإصبع على وتر التغيير الذي أحدثته سنوات «الربيع العربي» في الـ «سوشال ميديا» في أرض الكنانة. ومنذ «ثورة 25 يناير»، صارت مواقع التواصل الاجتماعي جزءاً من الخبر اليومي لناس مصر، خصوصاً منصّتي «فايسبوك» و «تويتر». وبعد سنوات على تلك الثورة، مازالت المنصتان على عين هيئتهما التقنيّة في 2011 إلى حد بعيد. لكن الناظر إليهما حاضراً، يحسب كأنهما لا تمتّان بصلة إلى ما كانتا عليه. يتمثّل ما تغيّر جذريّاً في المحتوى الذي هو الأمر الحاسم في الإعلام التواصلي. لم يعد إسقاط النظام الفاشل الباغي أكثر العبارات شيوعاً. ولم تعد عبارة «#عيش - حرية - عدالة - اجتماعيّة» تسجّل أعلى أرقام الـ «هاشتاغ» في خانة الـ «تريندينغ» Trending. كما تنحّت المواقف الثوريّة، والأفكار الحماسيّة عن صدارة المشهد العنكبوتي الذي بدا كأن خيوطه لم تعد منسوجة على النول الذي جمع خيوطها في «ثورة يناير». هناك أيضاً نوع من المناسبتيّة أيضاً. إذ يلاحظ أن كانون ثاني (يناير) وشباط (فبراير) باتا يفجران مشاعر مكبوتة تفيض عبر الـ «بوست» والتغريد والـ «هاشتاغ» والتدوين الإلكتروني، كأنها تريد التأكيد أن السنوات في الواقع الافتراضي هي على غير إيقاعها في واقع مصر فعليّاً.
مشاركة :