مهرجان روتردام السينمائي يعيد تسليط الأضواء على دور المخرج في حركة السينما الجديدة التشيكية في الستينات من القرن العشرين. العربأمير العمري [نُشرفي2017/02/12، العدد: 10541، ص(16)] يان نيمتش: أسطورة سينمائية حية كان من أهم “الأحداث” السينمائية في مهرجان روتردام السينمائي هذا العام، القسم المخصص لاستعراض التجربة السينمائية الرائدة للمخرج التشيكي يان نيمتش الذي رحل في مارس الماضي عن 79 عاما. وقد عرض المهرجان 20 فيلما هي معظم الأفلام التي أخرجها نيمتش، القصيرة والطويلة، كما أعاد تسليط الأضواء على دور هذا المخرج في حركة السينما الجديدة التشيكية في الستينات من القرن العشرين والتي كانت أولى حركات التجديد السينمائي في بلدان أوروبا الشرقية، والتي أعلنت تمردها على تقاليد مدرسة الواقعية الاشتراكية التي فرضها النظام فرضا على الأدب والفن. بدأ نيمتش تمرده على الأشكال السائدة في السينما في أوروبا الشرقية عموما بفيلمه القصير “رغيف خبز” (1960)، ومضى بعد ذلك ليصبح أحد مؤسسي حركة السينما التشيكية الجديدة التي ستصبح جزءا من حركة ثقافية أكبر، شملت المسرح والأدب والشعر والفنون، كانت تسعى إلى التخلص من القيود المفروضة على أشكال التعبير والإبداع الفني والأدبي في تشيكوسلوفاكيا طبقا لتوجيهات الحزب الشيوعي الحاكم الذي كان ملتزما وقتها بتوجيهات موسكو الخاضعة للأسس العقائدية الجامدة التي وضعها أندريه زادانوف تحت قيادة ستالين. كانت لحركة السينما الجديدة انعكاسات سياسية بلغت ذروتها في العام 1968 إبان ما عرف بـ”ربيع براغ”، الذي وصل إلى ذروته عندما أعلن ألكسندر دوبتشيك الأمين العام للحزب الشيوعي، اعتماد سياسة الاشتراكية ذات الوجه الإنساني، وأصدر قرارات تعكس الرغبة في تحقيق نوع من الانفتاح الديمقراطي يحفظ التجربة الاشتراكية نفسها، إلا أنه أشعل بذلك شرارة التدخل السوفييتي بالقوة المسلحة لقمع حركة التغيير الجديدة واحتلال العاصمة براغ والقبض على دوبتشيك وإلغاء كل ما أصدره من قرارات، لتبدأ حقبة سوداء في تاريخ البلاد سرعان ما شهدت هجرة معظم مخرجي السينما الجديدة إلى الغرب. كان يان نيمتش الوحيد من بين السينمائيين الذين قاموا بتصوير الغزو السوفييتي للأراضي التشيكية، وقد كشفت اللقطات التي صورها لدخول قوات موسكو ودول حلف وارسو الأراضي التشيكية، عندما عرضت في التلفزيون وشاهدها نحو 600 مليون شخص في العالم، أن القوات السوفييتية لم تأت بدعوة من الحكومة كما زعمت موسكو وقتذاك. وقد استخدم نيمتش الكثير ممّا صوّره في فيلمه “معزوفة إلى براغ” (26 دقيقة) الذي يعرض مشاهد من حركة ربيع براغ التي سبقت الغزو السوفييتي، كما يصور الصدامات الدموية التي وقعت في الشوارع بين المدنيين والقوات السوفييتية. منع فيلم "الحفل والضيوف" لجرأته في النقد ضمن التظاهرة الخاصة التي نظمها مهرجان روتردام عرضت أفلامه الأولى التي صنعت مجده، والتي قامت السلطات التشيكية بمنعها من العرض، ومن أهمها الفيلم التسجيلي “ذاكرة للحاضر” (1963)، و”جواهر الليل” (1964) وهو أول فيلم لفت الأنظار إلى موهبة نيمتش السينمائية، و”شهداء الغرام” (1967)، و”معزوفة لبراغ” (1968). كما عرض عددا من أفلامه التي أخرجها بعد عودته إلى بلاده من المهجر، مثل “منظر طبيعي لقلبي” (2004)، و”فتاة دينو فيراري” (2009). السينما الجديدة يعتبر كثير من المؤرخين أن حركة السينما التشيكية الجديدة تركت تأثيرا كبيرا مشابها لما تركته حركة الموجة الجديدة الفرنسية على السينما في العالم. وقد امتد تأثير السينما الجديدة في تشيكوسلوفاكيا إلى كل من بولندا والمجر ويوغسلافيا بل والاتحاد السوفييتي نفسه. وكان من أعلامها البارزين ييري مينزل (89 سنة) صاحب فيلم “قطارات تحت الحراسة المشددة” (1966) الذي حصل على جائزة أحسن فيلم أجنبي في مسابقة الأوسكار، وميلوش فورمان (84 سنة) صاحب فيلم “غراميات شقراء” (1965) و”النجدة يا رجال الإطفاء” (1967)، وقد هاجر فيما بعد إلى الولايات المتحدة حيث أخرج “طار فوق عش الوقواق” (1975)، و”أماديوس” (1984) و”الشعب ضد لاري فلينت” (1996). ومن أعلام الحركة أيضا المخرجة فيرا كيتلوفا (توفيت في 2014) صاحبة التحفة السينمائية الشهيرة “زهرات اللؤلؤ” (1966)، وإيفان باسر (83 سنة) الذي لجأ إلى الولايات المتحدة أيضا بعد دخول القوات السوفييتية إلى براغ عام 1968. الحفل والضيوف تأكد حضور نيمتش في المشهد السينمائي كمنشق سينمائي بارز عن النظام السائد، مع ظهور فيلمه “تقرير عن الحفل والضيوف” الذي اعتبر من أكثر الأفلام التشيكية نقدا للستالينية، بل وكانت الشخصية الرئيسية فيه ترمز إلى لينين نفسه. وقد عرض الفيلم عام 1966 أي قبل عامين من “ربيع براغ”. وعندما شاهده الرئيس التشيكوسلوفاكي نوفوتني في عرض خاص، قفز من مقعده صارخا “يجب اعتقال هذا المخرج فورا”. وقد فسّر الفيلم على أنه احتجاج على منع فيلم إيفالد شورم “شجاعة كل يوم” ووقف مخرجه عن العمل. لكن لم يتم اعتقال نيمتش اكتفاء بمنع فيلمه. ظل الفيلم ممنوعا لمدة عامين بسبب ما فسره كثيرون على أنه يتضمن نقدا لاذعا للحزب الشيوعي ولكن بأسلوب نيمتش الخاص الذي لم يكن مألوفا في تلك الفترة. لكن الطريف أن نيمتش ظل بعد ذلك ينفي دائما أن يكون هدفه من الفيلم نقد الحزب أو الحكومة بل نقد الناس أنفسهم، الذين يكرسون بخوفهم النظام وجبروته. يصوّر الفيلم مجموعة من المدعوين من وجهاء المجتمع يذهبون إلى حفل عشاء فخم مقام على ضفاف بحيرة وسط منظر طبيعي خلاب، ولكن المنطقة معزولة تماما عن العالم. وفجأة تحضر مجموعة من الأشخاص يقومون باعتقال الضيوف ويبدأون في استجوابهم، وعندما يبدي أحدهم اعتراضا ينكلون به، ثم يكتشفون غياب أحد المدعوين، فيحتجزون زوجته ويبدأون في البحث عنه في الظلام مستعينين بالكلاب البوليسية. "معزوفة لبراغ" أول لقطات لدخول القوات السوفييتية إلى براغ ورغم أهمية شخصيات المدعوين وما يشي به منظرهم كونهم من أصحاب السلطة والنفوذ السياسي، إلا أنهم يبدون عديمي الحيلة أمام الذين يستجوبونهم (رمز الشرطة السرية). ويكشف الفيلم في سخرية، نقاط الضعف في شخصيات الضيوف وعجزهم عن المواجهة، كما يكشف الاهتمامات الاستهلاكية لزوجات المسؤولين، وتواطؤ المضيف الذي نظم الحفل مع القوة الدخيلة، ويسند نيمتش دور رئيس مجموعة الشرطة السرية إلى ممثل يشبه لينين، وإن كان نيمتش أوضح فيما بعد أنه لم يكن يقصد ذلك. يستخدم نيمتش في فيلمه هذا اللقطات القريبة، والإضاءة الخافتة، والظلام أحيانا، ويجعل المناظر التي تدور في الداخل تبدو كما لو كانت داخل سجن، ويكثف الإحساس بالعبث في الفيلم من خلال ذلك الحوارات التي لا تكتمل، فالشخصيات تبدأ العبارات لكنها لا تكملها، ويستخدم نيمتش الكثير من الممثلين غير المحترفين في الفيلم، منهم المخرج إيفالد شورم نفسه الذي تعرض فيلمه “شجاعة كل يوم” للمنع في تلك الفترة، كما يستخدم كتابا وروائيين وموسيقيين في أدوار الضيوف.حياة نيمتش من أهم ما عرض ضمن تظاهرة روتردام، الفيلم الأخير للسينمائي الراحل وهو بعنوان “الذئب من شارع تكعيبة العنب الملكية” (2016) ويروي من خلاله قصة حياته بأسلوبه الذي يمزج بين الروائي والتسجيلي، الخيالي والسيريالي، كما يستخدم السخرية والمبالغات التي تصل حد الكاريكاتورية، كما يصور دوره كشاهد على دخول القوات السوفييتية إلى براغ في 1968. لا يسير الفيلم في اتجاه سردي تقليدي، بل ينتقل عبر الأماكن المختلفة والأزمنة، بطريقة السرد والتداعيات الحرة، يقدم اعترافات، كما يكشف عن حقائق وتفاصيل لم تكن معروفة من قبل، ويظهر الممثل كارل رودين الذي يتقمص شخصية نيمتش في بداية الفيلم وعلى فترات أخرى، يقدم الأحداث ويعلق عليها بصوته، وفي باقي أجزاء الفيلم يقوم الممثل ييري مادل بأسلوبه الكوميدي، بدور نيمتش، يخوض مغامراته في عالم السينما ويعكس سعيه الدائم للحصول على حريته كمبدع، كما يروي طرفا من تجربته في المهجر ثم يصور الاحتفاء الرسمي به، من طرف كبار المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم فاكلاف هافل بعد عودته إلى بلاده عام 1989. محاكمة كافكا يعتمد الفيلم على مجموعة قصص قصيرة كتبها نيمتش، يروي من خلالها تفاصيل حياته. وفي أحد المشاهد نرى نيمتش في طائرة يريد أن يسافر لإنجاز مشروع فيلم جديد في الغرب، لكن السلطات توقف الطائرة بعد إقلاعها وتأمر بعودتها إلى المطار لكي تعتقل نيمتش حيث يحملونه إلى مكان مجهول ويجري التحقيق معه بواسطة ضابط رفيع المستوى يوجه له تهمة الانشقاق عن النظام مستندا إلى رغبته في إخراج فيلم عن رواية كافكا الشهيرة “التحول”، معتبرا كافكا أحد كبار مناهضي النظام حسب تقارير الأمن، فيشرح له نيمتش كيف أن كافكا توفّي عام 1928، وكيف كان يوجه في رواياته نقدا شديدا للرأسمالية ومنها “أميركا” التي يهجو فيها الغرب وقوانين السوق التي تسحق العمال. ومن خلال هذا المشهد الساخر يكشف الفيلم عن جهل الجهات الأمنية وبذلك يتمكن نيمتش من الإفلات من الاعتقال. "جواهر الليل" الفيلم الذي لفت الأنظار لموهبة نيمتش وفي مشهد آخر يذهب نيمتش إلى نيويورك للبحث عن تمويل لفيلمه الذي عجز عن الحصول على تمويل له في أوروبا، وهناك يلتقي “إيفانا” الزوجة السابقة (التشيكية) للملياردير دونالد ترامب لكي تتوسّط له عند زوجها، تلتقي به وتجلس أمامه على مقعد على الرصيف المحاذي لناطحة السحاب التي يملكها ترامب في وول ستريت. وعلى خلفية صورة ترامب في شبابه (كما كان في ذلك الوقت) تقدم له إيفانا باقة ورد، كما تثني عليه وتشيد بشجاعته، ولكنها تعتذر بالقول إن ترامب ليس مهتما بالاستثمار في الأفلام، فيسألها نيمتش “ألن يدفع شيئا.. ولا حتى دولارا واحدا؟”، تبتسم إيفانا ابتسامة عريضة، ثم تكرر “ولا دولارا واحدا”، فيمضي نيمتش ليدس باقة الورد في أقرب سلة قمامة! كان نيمتش من أوائل الذين عرفوا بوصول القوات السوفييتية في الرابعة صباحا إلى براغ، فسار مع رفاقه في الشوارع وهم يصيحون بأعلى أصواتهم، ينبهون السكان إلى الخطر القادم، والسكان، كما يروي في فيلم “فتاة دينو فيراري” (2009) ينهرونهم باعتبارهم مجموعة من الشباب العابث، فلم يكن أحد يتخيل أن موسكو ستجنح إلى التدخل العسكري. اتصل نيمتش بمدير الأستوديو السينمائي الذي كان يعمل له وكان خاضعا للدولة، وطلب منه إرسال مصور مع بعض عُلب الفيلم الخام على الفور، واستقل الاثنان سيارة نيمتش وشرعا في تصوير تلك الأحداث الدرامية. أما الفتاة الشقراء التي حملت نسخة الفيلم في حقيبة وتمكنت من خداع السلطات زاعمة أنها إيطالية الجنسية فكانت صديقته وكانت تريد أن تصبح ممثلة، وكانت تقود سيارة فيراري، في حين أن نيمتش، كما يقول في الفيلم، كان يقود الطبعة الشعبية منها، أي سيارة من نوع “فيات”. يعود نيمتش في الفيلم، من خلال شخصية مخرج يؤديها الممثل كاريل رودين، إلى الأماكن الحقيقية التي صور فيها وصول الدبابات السوفييتية، والناس يتجمهرون حولها، حرق الحافلات، وإطلاق الرصاص، ومحاصرة جسور براغ الشهيرة ومنها أشهر وأعرق جسر في العالم وهو جسر فاكلاف التاريخي الشهير. ويروي الفيلم كيف قام نيمتش بتهريب نيغاتيف الفيلم وتسليمه للتلفزيون وكيف تمكن من إخراجه من البلاد مع صديقته الشقراء برفقة صديق لها، بينما منعته السلطات من الخروج لكنه عاد وتحايل حتى تمكن من عبور الحدود. يعود نيمتش إلى المنطقة الحدودية التي شهدت خروجه، ويروي عن طريق صوت المعلق الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفترة، ويشرح كيف أنه فشل أولا في إقناع حراس الحدود بأنه إيطالي بعد أن ظلّ يردد كلمات إيطالية لا معنى لها، كان قد حفظها من الأفلام، ثم عاد واعترف بأنه تشيكي وقدم لهم جواز سفره. ويروي أن الجنود السوفييت لم يفهموا شيئا مما حدث وكانوا يتطلعون إلى زملائهم التشيك الذين كان واضحا أنهم متعاطفون مع نيمتش، بل إن أحدهم قال له في النهاية “إن الجمهورية التشيكية ستبقى”، وهو ما يدل على اشتعال الروح الوطنية بسبب صدمة الغزو السوفييتي. يان نيمتش قصة حياة مخرج، وقصة فصل من أهم فصول تجديد السينما في العالم. ناقد سينمائي من مصر :: اقرأ أيضاً بحيرة العجائب السبع وضفاف الثقافات أمانة الحب أمير عاشق وفتاة من الشعب هل صدام الحضارات إعلان حرب على الإسلام عدسة عراقية تصطاد وجوه عاصمة الاتحاد الأوروبي
مشاركة :