في ظل تبدل الاهتمامات لم يعد خيار العداء مع إسرائيل يحتل أولوية في الشارع أو لدى الأحزاب السياسية في مصر، وهو ما منح النظام فرصة للتعامل بقدر من الأريحية مع إسرائيل. العربمحمد أبو الفضل [نُشرفي2017/02/13، العدد: 10542، ص(9)] كل من يراقب محرار العلاقات بين مصر وإسرائيل حاليا، يلمس انتقاله إلى مربع السلام الدافئ، وأن صور التعاون شهدت معدلات مرتفعة أكثر مما كانت عليه من قبل، جعلت من الحديث عن السلام البارد الذي شاع لفترة طويلة يتراجع، بشكل دفع دوائر عدة للاعتقاد بأن القاهرة وتل أبيب أصبحتا على درجة جيدة من الانسجام. أشكال وألوان التوافق الظاهر تبدو أكثر وضوحا في الأبعاد الأمنية، لأن كل طرف أدرك أن التفاهم حول تفاصيل القضايا التي تندرج في هذا المجال، عملية تخدم مصالح الطرفين، وجرى الضرب عرض الحائط بقيود كانت تحجم تحركات الجيش المصري في سيناء، وضعتها البنود التفصيلية لاتفاقية كامب ديفيد التي تم التوقيع عليها عام 1978، ولم تبد إسرائيل غضبها عندما دخلت معدات عسكرية إلى مناطق كانت محرمة من قبل، لمطاردة الإرهابيين وفلولهم في أطراف سيناء الشرقية. المسألة تجاوزت هذا الحد، حيث قام سلاح الطيران بطلعات تجاوزت الأراضي المصرية، لقصف عناصر متشددة في أماكن متعددة، وكلها عوامل فتحت الباب إلى المزيد من التنسيق الأمني مع إسرائيل، ولم نسمع اعتراضا أو إدانة من جانب تل أبيب على العمليات التي يقوم بها الجيش المصري ضد تنظيمات متطرفة، لأن أي اعتراض كان سيضعها في موقف حرج، وسط اتهامات غير رسمية تناثرت هنا وهناك، قالت إن إسرائيل مرتاحة لحرب الاستنزاف التي يخوضها الأمن المصري ضد الإرهابيين، وربما قدمت أنواعا مختلفة من الدعم لها. الارتياح المصري للمرونة التي يتمتع بها الجيش في مناطق كانت محرمة عليه، ساهمت في فتح أبواب كثيرة للحوار مع تل أبيب بشأن التفاهم حول الآليات اللازمة لضبط الحدود المشتركة، وبالتالي عندما أطلق إرهابيون صواريخ من سيناء على ميناء إيلات مؤخرا، كان الغرض من ذلك توتير العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، لذلك استوعب كل طرف سريعا الهدف من وراء إطلاق الصواريخ، وجرى تفويت الفرصة على تعكير صفو العلاقات بينهما. ما يوصف بـ“الدفء” في العلاقات بين مصر وإسرائيل، له علامات كثيرة، وظهرت تجلياته في الهدوء المصري نحو زيادة معدلات الاستيطان في الأراضي المحتلة، وتصاعد حدة خنق المواطنين الفلسطينيين، والإجراءات الصارمة التي تتخذها حكومة الاحتلال، والموقف من قرار مجلس الأمن 2334 في ديسمبر الماضي، حيث سحبت القاهرة مشروع قرارها في البداية ثم صوتت عليه بعد أن تبنته دول أخرى. في مثل هذه المواقف لم تكن مصر تلتزم الصمت أو الهدوء، على الأقل كانت تصدر بيانات قوية، والآن تراجعت حدة الإدانة وأصبحت مغلفة بالمزيد من الدبلوماسية، في حين لا تزال الخروقات الإسرائيلية متواصلة، ما أدى إلى صدور تلميحات بأن القاهرة لم تعد تُدرج الصراع مع إسرائيل ضمن أولوياتها. الحاصل، أن ثمة جملة من العوامل المحلية والإقليمية، فرضت على النظام المصري، الحذر في التصعيد مع إسرائيل حاليا، وكبحت جماح الامتعاض المستتر لدى الرأي العام الغاضب من الليونة الزائدة في التعامل مع تل أبيب، والذي أفضى إلى القول إن القاهرة تخلت عن السلام البارد مع إسرائيل. تراكم المشكلات والأزمات الداخلية، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، كان في مقدمة الأسباب التي جعلت من الدخول في صدام مع إسرائيل مخاطرة كبيرة، خاصة أن مسرح العمليات الأول (سيناء) تزايدت فيه التنظيمات الإرهابية، وبالتالي فالدخول في مواجهات مع إسرائيل، والاعتراض على الانتهاكات المستمرة، قد يضعان النظام المصري في مماحكات مزدوجة؛ عدو خارجي (إسرائيل) وآخر داخلي (المتطرفون) ما يمثل حرب استنزاف مادية ومعنوية مكلفة. لذلك فرضت الأجواء العامة في الداخل التريث، بل والتعاون أمنيا مع إسرائيل، والتفاهم حول مساحات مشتركة، لأن القاهرة ليست لديها رفاهية تعدد الجبهات، واستفادت من تجارب الماضي، خاصة في حقبة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، التي كان أحد أبرز أخطائها الدخول في مواجهات مختلفة وعلى أكثر من مستوى. علاوة على التطورات الإقليمية، التي تصب حصيلتها في صالح إسرائيل، فالجبهة السورية، خط المواجهة الأول، انهارت تقريبا، والعراق فقد دوره العربي، ناهيك عن الحرب في اليمن وليبيا، وكلها عوامل خصمت من القوة العربية، وأرخت بظلال سلبية عليها، ومنحت إسرائيل مزايا نوعية ويدا طولى تجعل من التحرش المحتمل بها عملية محفوفة بالمخاطر، لذلك كان التوجه المصري مائلا نحو ضخ شحنة حرارية جديدة. كما أن التصورات العامة في المنطقة، تتجه نحو تعزيز أفق التعاون الإقليمي، والقوى التي تمسك بالكثير من مفاتيح الحل والعقد في المنطقة تتبنى هذا الخيار، وتنتهز فرصة الفك وإعادة التركيب لضم إسرائيل فيها، كرقم صحيح طبيعي، ما يعني أن الصدام معها، ولو بصورة سياسية، يمكن أن يجلب عواقب وخيمة، الأمر الذي أصبحت غالبية القوى الإقليمية، عربية وغير عربية، على قناعة به، ولم تدخر وسعا في تمديد خيوط تواصلها مع تل أبيب، سرا أو علانية. القناعات المصرية حيال المرونة مع إسرائيل، لها علاقة بعدم وجود ضغوط شعبية على النظام الحاكم كالسابق، والتي فرضت على الرئيس الأسبق حسني مبارك عدم المجازفة، والحرص على خنق السلام مع إسرائيل وعدم مبارحته المربع البارد، حتى لا يستفز الرأي العام المصري الرافض للتطبيع. في ظل تبدل الاهتمامات، لم يعد خيار العداء مع إسرائيل يحتل أولوية في الشارع أو لدى الأحزاب السياسية في مصر، وهو ما منح النظام فرصة للتعامل بقدر من الأريحية مع إسرائيل، دون أن يتعرض لمنغصات شعبية، من هنا كانت البيئة مواتية، ومن نواح مختلفة، لضخ المزيد من الدماء في شرايين السلام البارد. المشكلة أن التحركات السياسية الحالية تسير في طريق مناهض للتوجهات الاستراتيجية العامة، والتي على يقين أن إسرائيل سوف تظل خطرا كبيرا، مهما حصل من تعاون وتنسيق وتفاهم، تفرضها دوافع آنية، وهو ما تؤكده العقيدة العسكرية المصرية، التي على قناعة أن تل أبيب عدو واقع وليس محتملا، من الضروري الانتباه إليه مستقبلا. كاتب مصري محمد أبو الفضل :: مقالات أخرى لـ محمد أبو الفضل السلام الدافئ بين مصر وإسرائيل, 2017/02/13 الازدواجية الكاشفة في العلاقات بين مصر والسودان, 2017/02/07 دبلوماسية الثقافة بين مصر والسعودية, 2017/02/06 هندسة البيئة العربية أولوية غربية, 2017/01/30 إعادة تأهيل السودان , 2017/01/23 أرشيف الكاتب
مشاركة :