عندما تدخّل الجيش السوري في أيلول (سبتمبر) 1970 بالنزاع بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية كانت السلطة السورية كمن حكم على نفسه بالإعدام من خلال تجاوزها المحرمات الدولية (مثل صدام حسين في 2 آب -أغسطس 1990 بالكويت)، وكان ملفتاً أن وزير الدفاع السوري الفريق حافظ الأسد كان معارضاً ذلك التدخل: كانت دمشق على تناقض مع واشنطن وموسكو حيال القرار 242 الذي صدر عقب حرب حزيران (يونيو) 1967 والذي قبلته القاهرة وعمّان، وكانت على خصومة مع الرياض، لينضاف ذلك كله في آب إلى خلاف دمشق مع عبدالناصر بسبب قبوله مشروع روجرز الذي قدمه وزير الخارجية الأميركية وقاد إلى وقف حرب الاستنزاف المصرية- الإسرائيلية. كان هذا الجو الدولي- الإقليمي مدخلاً للفريق حافظ الأسد من أجل تسلُّم السلطة عبر حركة 13- 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، مع إضافة الجو الداخلي الناقم أو المعارض من شرائح اجتماعية سورية واسعة لسلطة 23 شباط (فبراير) 1966. يروي مروان حبش على صفحته على الفايسبوك، وهو الوزير في (سلطة 23 شباط)، أن السفير السوفياتي اجتمع مع اللواء صلاح جديد صباح 13/11/1970 و «طلب السفير الاعتراف بالقرار 242 مقابل الضغط لإيقاف إجراءات الانقلاب... و/قد/تبلغ السفير بأن القيادة لا ترى أي مبرر للاعتراف بالقرار». كانت أولى خطوات السلطة السورية الجديدة التقارب مع القاهرة، التي تولّى سلطتها الرئيس أنور السادات بعد وفاة عبدالناصر في 28 أيلول 1970، ومع الملك فيصل في الرياض. ظلت الخصومة مع البعث العراقي قائمة في دمشق. كان ثالوث القاهرة - الرياض - دمشق محوراً للسياسة السورية في النصف الأول من السبعينات، ولولاه ما كان ممكناً قيام حرب 1973 ضد إسرائيل. تزعزع هذا الثالوث مع اتجاه السادات إلى خطوات تسوية انفرادية مع تل أبيب، وكانت دمشق أثناء جولة كيسنجر المكوكية في المنطقة (شباط - آذار- مارس) 1975 أقرب إلى الرياض منها إلى القاهرة. تباعدت دمشق والقاهرة على خلفية اتفاقية سيناء في أيلول 1975، وكان السادات معارضاً الدخول العسكري السوري إلى لبنان في 1 حزيران 1976 هو وبغداد وموسكو، فيما وقفت الرياض مع واشنطن في دعم خطوة دمشق. عندما عقد مؤتمر الرياض السداسي في تشرين الأول (أكتوبر) 1976 وتقرر إنهاء حرب السنتين اللبنانية كان هناك احياء لثالوث القاهرة - الرياض - دمشق وكانت دمشق تأمل بأن هذا الثالوث، مع الرئيس الأميركي الجديد جيمي كارتر صاحب توجهات العودة إلى مؤتمر جنيف للتسوية (كانون الأول - ديسمبر 1973) والابتعاد عن سياسة كيسنجر: الخطوة - خطوة، سيعطي العرب مركز قوة في عملية التسوية. مع إمساك دمشق بالورقة اللبنانية أصبح موقعها أقوى في ثالوث النصف الثاني من السبعينات بالقياس إلى الثالوث السابق. من هنا أتى رفض القاهرة ما اقترحته دمشق لـ «وفد عربي مشترك» في مؤتمر جنيف، وهي كانت محاولة أيضاً من الرياض ودمشق لحل موضوع التمثيل الفلسطيني بمؤتمر جنيف ولمنع تمثيل الأردن وحده للفلسطينيين في ظرف كان قد صدر فيه قرار قمة الرباط العربية (تشرين الأول 1974) الذي يعتبر «منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». كانت زيارة السادات القدس في 19 تشرين الثاني 1977 هروباً مصرياً من هذا الاستعصاء لعملية التسوية، خصوصاً بعد صدور البيان الأميركي- السوفياتي (1 تشرين الأول) الذي يدعو إلى استئناف مؤتمر جنيف، ومحاولة عقد تسوية مصرية- اسرائيلية انفرادية. حافظت دمشق على علاقاتها القوية مع الرياض ولكن، حاولت توسيع البيكار، من أجل مجابهة خطوة السادات، عبر إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع موسكو، وعبر مصالحة عراقية- سورية، وإنهاء التباعد مع منظمة التحرير الفلسطينية وقوى اليسار اللبناني بعد صدام دمشق معهما منذ الدخول العسكري السوري إلى لبنان. فشلت عملية التقارب السورية مع بغداد مع صعود صدام حسين للسلطة في 16 تموز (يوليو) 1979، وخصوصاً مع رؤيتين مختلفتين في بغداد ودمشق للخميني الواصل إلى السلطة الإيرانية في 11 شباط 1979. دعمت بغداد الإسلاميين في تنظيمي «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» و «التنظيم العام للإخوان المسلمين» في صدامهم العسكري مع السلطة السورية 1979- 1982. عندما نشبت الحرب العراقية – الإيرانية في 22 أيلول 1980 كان هناك تباعد سعودي- سوري ولكن ليس إلى حد التفارق والصدام بل تم الحفاظ على «شعرة معاوية». زادت الثنائية السورية - السعودية مع قبول دمشق مشروع قمة فاس العربية للتسوية في أيلول 1982 الذي انبنى على مشروع الأمير فهد عام 1981 في قمة فاس الأولى حيث حصل صدام سوري - سعودي كبير، ويبدو أن حرب اجتياح لبنان صيف 1982 قد أشعرت دمشق بالضعف ما دفعها للتقارب أكثر مع الرياض. خلال فترة 1982- 1989 كان لبنان ممراً لتقوية الثنائية السعودية– السورية حتى تتويج هذا باتفاق الطائف حول التسوية اللبنانية التي كان ثالثه واشنطن التي تقاربت دمشق معها مع اكتشاف الرئيس حافظ الأسد بوادر الاستقالة السوفياتية من وضعية الدولة العظمى أثناء زيارته موسكو في نيسان (أبريل) 1987 واجتماعه مع ميخائيل غورباتشوف. كان الدافع السوري أيضاً لزيادة التقارب مع الرياض هو القوة الجديدة التي اكتسبها صدام حسين بعد خروجه منتصراً في حربه مع ايران التي انتهت في 8/8/1988 وما قامت به بغداد من دعم لميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية اللبنانية، في «حرب التحرير» التي شنها ضد القوات السورية بلبنان منذ آذار 1989. كان اتفاق الطائف، في تشرين الأول 1989، قراءة سورية لضرورة التقارب مع واشنطن في ظل انهيار (الكتلة الشرقية السوفياتية)، ولتمتين العلاقات مع الرياض التي شاركت دمشق هاجس الحذر من تنامي القوة العراقية. أكملت دمشق ذلك بإعادة العلاقات مع القاهرة أواخر 1989 بعد قطيعة استمرت منذ زيارة السادات القدس عام 1977: في مرحلة (ما بعد غزو العراق للكويت: 2 آب 1990) وحرب 1991 عاد ثالوث القاهرة- الرياض- دمشق، وكانت ملامحه الأولى ظاهرة في قمة بغداد العربية أواخر أيار (مايو) 1990، التي غابت عنها دمشق، حين ظهرت علامات التباعد السعودي والمصري مع صدام حسين المنتشي بقوته الجديدة. كان 2 آب 1990 مدخلاً إلى 13 تشرين الأول 1990 حين أُزيح ميشيل عون من قصر بعبدا بأيدي القوات السورية وبدأ التنفيذ الفعلي لاتفاق الطائف برعاية سورية- سعودية- أميركية، كان أحد ملامحها الكبرى هو وصول رفيق الحريري لمنصب رئيس الوزراء في عام 1992، وكان مؤتمر مدريد 1991 للتسوية العربية- الإسرائيلية تجسيداً أيضاً لوجود ذلك الثالوث العربي في مرحلة ما بعد حرب 1991 وهزيمة العراق العسكرية. أضعفت دمشق من خلال خروج الفلسطينيين والأردنيين من مسار (مدريد) عبر اتفاقيتي «أوسلو» و «وادي عربة» في عامي 1993 و1994، ولكن ظل الثالوث العربي قائماً، وقد ظهر هذا جلياً عام 1995 حين لجأ صهر صدام للأردن وظهرت محاولات هاشمية ومن واشنطن ولندن لترتيب مستقبل العراق حيث وقفت الرياض والقاهرة ودمشق ضد ذلك. على رغم هذا فقد كانت هناك ضرائب دفعتها دمشق (وكل العرب) أتت من ضعف وهزيمة 1991 للعراق: صعود القوتين الإيرانية والتركية. لم تعد دمشق متسيدة للملف اللبناني، بل بدأت هناك منافسة إيرانية، كانت أولى تجسداتها صعود «حزب الله» واحتكاره المقاومة ضد إسرائيل عبر منع «الحزب الشيوعي» و «الحزب السوري القومي» من أن يكون لهما دور في المقاومة مثلما كانت الحال في الثمانينات. كانت دمشق في مواجهات «حزب الله» و «حركة أمل» بالنصف الثاني من الثمانينات أقرب إلى نبيه بري. بدأ الضغط التركي على دمشق عبر مياه الفرات من أجل رفع الدعم السوري لحزب عبدالله أوجلان. في خريف 1998 وصل هذا الضغط إلى التلويح بالقوة العسكرية، واضطرت دمشق للتخلي عن أوجلان وترحيله من الأراضي السورية والتوقيع على «اتفاقية أضنة»... كانت القاهرة وسيطاً في تلك الأزمة بين دمشق وأنقرة. لم تستطع دمشق أن تحافظ على قوتها: ظلت محتفظة بالورقة اللبنانية، ولكن بدأت تظهر المنافسة الإيرانية. لم تعد سورية قوية في مفاوضات التسوية عندما أصبحت وحدها (ولو مع لبنان) بعدما لحق الفلسطينيون والأردنيون بالمصريين الذين دشنوا التسوية مع إسرائيل. ظلت السلطة السورية رافضة تسوية لا يتم فيها تطبيق خط 4 حزيران 1967 للحدود بدلاً من خط حدود 1923، وكان هذا هو السبب لفشل محادثات شيبرد زتاون ومن ثم قمة جنيف بين الرئيسين الأميركي والسوري في آذار 2000 عندما حمل بيل كلينتون عرضاً من إيهود باراك بذلك. في 25 أيار 2000 انسحبت إسرائيل عسكرياً من جنوب لبنان. كان ما جرى في جنيف وفي الجنوب اللبناني عام 2000 (والثاني ما كان ليتم بهذه الطريقة لو نجحت قمة جنيف حيث كان من الأرجح أن تتم تسوية سورية- لبنانية مشتركة مع الإسرائيليين وفقاً لـ «تلازم المسارين»)، محدداً للكثير من ملامح الدور الإقليمي السوري (مع الملف العراقي) في مرحلة ما بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد السبت 10حزيران 2000. * كاتب سوري
مشاركة :