الكتابة النقدية تعتبر مجالا حيويا للاختبار والبرهان، وهي أيضا حافز للانفتاح على المجاورات النصوصية، تلك التي تخص التاريخ، والأثر والوقائع والوثائق. العربعلي حسن الفواز [نُشرفي2017/02/18، العدد: 10547، ص(17)] الكتابة النقدية عملية مُقننة تتجوهر فيها الخبرة إذا كان رولان بارث قد وضع البنيوية موجّها لـ”موت المؤلف” ولإحياء تمثلات النص المكتفية بذاتها كظاهرة لسانية، أو كقيمة فنية وتكوينية، فإن النقد الثقافي أخرج النص من لعبة هذا الموت الافتراضي، وأعاده إلى حياة مضادة، تقوم على إنقاذه من السياق القديم، وإحياء علائقه بالنصوص المجاورة، عبر ما يتبدى من استراتيجيات تُحرّك النص وتُفجر جوانياته، وتدفع به إلى المزيد من القراءة، والمزيد من الكشف. فكر الناقد يعني نصوصه دائما، وإنّ نزوعه لتحويل هذا الفكر إلى وظيفة سيصطدم حتما بالسياق الحاكم، وهنا تتبدى فاعلية تجديد هذه الوظيفة أو تحفيزها لتتحوّل إلى قوة، وإلى إجراء له أثره في تعديل موجّهات القراءة، وفي تداولية المقروء، وكذلك في صياغة أكثر تجاوزا وإثارة للسؤال النقدي. وبقدر ما نرى في فاعلية الكتابة مقصدية أخرى، فإننا ندرك تماما ضرورة تعالق هذه المقصدية بحيازة الحيوية واللذة، مثلما هو انشغالها بوعي موضوعة المنهج، والذي قد يكون متعسفا عند البعض، أو أنه يتحول إلى مصدّ لإعاقة الفعل الوظيفي، أو قسره في معيار يُفقده القدرة على المغامرة، والمراوغة، وعلى تحجيم الخوض في ما يجعله أكثر خصبا ودينامية وتأويلا. شأن التأليف النقدي لا يختلف عن أيِّ شأن إبداعي آخر، إذ يعمد الناقد إلى القراءة الفاعلة، وإلى وضع هيئة مقترحة لهذه القراءة، حيث تستمر طاقة التخيّل، وبما يجعل هذا التأليف أكثر حاجة إلى “مغامرة، وإلى اقتحام، وإلى توسيع أفق” كما يقول إدوارد الخراط. كما أنّ هذا الشأن ينحني على شأن لسانيَّ يحققه الناقد عبر مجاله الأدبي أو الثقافي، وعبر وعيه للمغامرة، من خلال تعامله الإجرائي ومقاصده، إذ تكون الكتابة النقدية عملية مُقننة، تتجوهر فيها الخبرة، مثلما تتسع لها الرؤية، على مستوى حساسية هذه الكتابة، وعلى المستوى الأجناسي، بوصف الكتابة النقدية “جنسا” له تقاناته، وصياغاته، وله عناصر “سردياته” وفاعلية تلقيه وقراءته. قد تكون الرواية من أكثر أشكال الكتابة مدعاة للمغامرة، لتجاوز عقد الحكاية، والسيرة، ولوضع الاجتهاد المنهجي للنقد الروائي في سياق هذه المواجهة، وعبر حيازة تقانات التحليل والتأويل، وتوظيف المفاهيم والمقولات والمصطلحات، ليس لضبط صرامة المنهج، بل لأنسنة الذات الناقدة/القارئة كما يسميها محمد صابر عبيد في كشف الحُجُب، وفي تحويل لغة النقد إلى لغة يمكن تداولها بعيدا عن تلغيز الشفرات، وفخاخ ما يتوهمه البعض من أكاديميي الدرس النقدي. من جانب آخر فإن الرواية لم تعد حكاية خالصة، وحتى مفهوم الحبكة الذي يصرُّ عليه البعض فقد الكثير من توهجه، وراح النقد يقترح مستويات أخرى لقراءتها، وربما توصيف آخر لها، حيث توّسع مجال كتابتها، وانفتاح مساحتها على مستوى الزمن والمكان والشخصية، وحتى على مستوى وظائفية البناء والحوار وتعدد الأصوات. الرواية العابرة للحكاية قد تكون بديلا عن كتابة التاريخ، ومقاربة سردية للكتابة الذاتية، وهذه التمثلات والبدائل والمقاربات، تفترض وجود صورة أخرى للراوي، أو الشاهد، حيث لزوم حيازة تقانة “الإنشاء” والعرض، والتخييل، والاجتهاد في إنعاش النص النقدي ليكون عابرا للمتعة، وتقانة المغايرة التي تستفز قارئا جديدا، له مرجعياته المختلفة، وله جهازه المفاهيمي في التلقي والتلذذ والتفاعل. تقانة كتابة النقد هي مجال حيوي للاختبار والبرهان، وهي أيضا حافز للانفتاح على المجاورات النصوصية، تلك التي تخص التاريخ، والأثر والوقائع والوثائق، مثلما تخصُّ التفاصيل اليومية المهملة، والمُضمرة، أو الفائرة أحيانا، تلك التي سمّاها رولان بارث بـ”الأساطير” أو “المثيولوجيات” حسب الترجمة، وأحسب أنّ صورة بارث الناقد هي الأكثر تعبيرا وتمثّلا لحيوية الناقد الجديد، ناقد التقانة والحيازة والحيوية وليس ناقد البلاغة أو الرهاب المنهجي. السرد يعني التخيّل، ويعني اصطناع فضاءات يتشبك فيها الواقعي مع المتخيّل، والسحري مع الحقيقي، أو اليومي مع العمومي. هذه الاشتباكات تتعالق في سرديات الرواية والقصة، لكنها في النقد ترتهن إلى حكمة الكتابة، وإلى قدرة الكاتب/الناقد على حيازة مُقدّرات تخص الترميز، وتوجيه القراءة، وفي خلق مجال أو حتى مزاج لما يشبه بسردنة الكتابة، حيث كتابة نص آخر، له تحققه الجمالي، ورؤياه، وله طابعه التراسلي، وبما يجعل تجربة هذه الكتابة أكثر مواءمة للفهم، والقبول، أو حتى تحويل المادة الذهنية في النص النقدي إلى مادة قابلة للتخيل.
مشاركة :