أبدأ يومي عادةً بساعةٍ صباحيَّة وأختمُه بأخرى مسائيَّة متنقِّلاً بين الفضائيَّات متابعاً أخبار الوطن العربيِّ لعلِّي أن أسمعَ ما يسرُّ عن فلسطين والعراق وسوريَّا أو عن اليمن وليبيا أو عن الأحواز وغيرها، فأسمعَ خبراً ينهي أزمةً سياسيَّة، أو تحليلاً يوحي بانتهاء صراعاتٍ عسكريَّة وتنظيماتٍ إرهابيَّة، أو إشارةً لاتِّفاقيَّة تعالج مآسي المهجَّرين واللاجئين العرب، أو تحقيقاً يكشف تقلُّصَ نفوذِ دولٍ استعماريَّة وإقليميَّة، أو تقريراً عن تراجع الإرهاب والطائفيَّة والأميَّة أو البطالة والفقر والجوع أو انتهاك حقوق الإنسان أو الفساد الماليِّ والإداريِّ هنا أو هناك، لكنَّ أيَّامي تبدأ بسماع السيئ وتنتهي بالأسوأ واقعاً، بل إنَّ كلَّ يوم يكون أكثر إيلاماً من سابقه، وذاتَ مساء ذهبتُ لسريري متجرِّعاً مراراتٍ عربيَّة ما استطعتُ التخلُّصَ منها لأنام سويعاتٍ أنفصل بها عن الواقع العربيِّ بالرغم من استخدامي أساليبَ التهيئة التي علَّمنيها علمُ النفس. جرَّبتُ مستجدياً النَّومَ الاستغراقَ بأحلام اليقظة متخيِّلاً وطناً عربيّاً تخلَّص من مشكلاته ومآسيه التي تداولتْها الفضائيَّات أخباراً وتقاريرَ وتحليلاتٍ، فاستغرقتُ وقتاً طويلاً باستدراجِ النَّوم لأنجحَ بأقلَّ من فترة أحلام اليقظة، فدخلتُ بأحلام النَّوم فرأيتُني أستيقظ مسروراً بما حقَّقه العربُ من نقلةٍ حضاريَّة دلفوا فيها للقرن الثاني والعشرين، وأنِّي أترك سريري لأستفتح كعادتي نهاري بالفضائيَّاتِ متابعاً أخبارها لعلَّ وعسى، ففوجئتُ حين نزولي إلى صالة منزلي باختلاف محتوياتها عمَّا أعرفها فإذا بجهازَي رائي ولاقط للفضائيَّات مختلفين لم أتمكَّن من تشغيلهما. ورأيتُني أنادي هماماً لمساعدتي، فإذا بطفلٍ دون العاشرة احتلَّ ركناً قصيّاً من الصالة مشغولاً بجهازٍ لم أتبيَّنه حينذاك يستجيبُ لندائي متسائلاً من أنتَ؟، وكيف عرفتَني؟، فسألتُه وهل أنتَ همام قال: نعم همام عبدالرحمن عبدالله الواصل، قلتُ إذاً أنا أبوك ولكنَّ هماماً شاب قارب الثلاثين من عمره يدرس الماجستير في جامعة الملك عبدالله (كاوست)، فتركني مسرعاً وعاد حاملاً صورةً حائطيَّة وعدَداً من صحيفة الشرق يحتوي صورة صغيرة ليقارنَ بيني وبينهما، فصرخَ قائلاً: إذاً أنت والدُ جدِّي همام. هدأنا بعد أن تعرَّفنا على بعضنا فسألتُه إذا أين جدُّك همام؟، فأجابني: إَّنه برفقة جدِّي عبدالله في زيارة المسجد الأقصى وسيعودان مساءً، قلتُ وكيف تمكَّنا من ذلك؟، قال: فلسطين عربيَّة إسلاميَّة لا تمنع العرب والمسلمين زيارةَ الأقصى فهي كبلادنا لا تمنع زيارتهم الحرمين الشريفين، قلتُ: إذا أين اليهود الصهاينة من فلسطين؟!، قال: تركوها منذُ نصف قرن والمتبقُّون منهم لا يشكِّلون 10 % من سكَّانها، قلتُ: أوافقت أمريكا حليفتهم على ذلك؟، قال: هذا تاريخٌ قديمٌ، أما الآن فمجلس الأمن بعشر دولٍ عظمى ليست أمريكا من بينها، حلَّتْ دول محلَّ دول فيتو القرن العشرين، منها مقعد عربيٌّ تتناوبه خمسة كياناتٍ عربيَّة، هي اتِّحاد جزيرة العرب، واتِّحاد وادي النيل، واتِّحاد المغرب العربيُّ، وفلسطين، ومملكة الأحواز، وقرارات مجلس الأمن لا تُنقض إلاَّ بفيتو ثلاثِ دولٍ من عشر بشرط أن يكون من بينها الصوتُ العربيُّ، قلتُ: أتظنُّني أصدِّقُ ذلك؟، وأين جامعة الدول العربيَّة؟. تركني همامٌ الحفيد مرَّة أخرى ليعودَ حاملاً خريطة حائطيَّة لجغرافيَّة الوطن العربيِّ ليثبتَ مقولاته، فرأيتُها خريطةً بمسمَّيات وحدود مختلفة عمَّا تختزنُه ذاكرتي جغرافيّاً، فظهر فيها اتِّحادُ جزيرةُ العرب، ومملكةُ الأحواز شرق الخليج العربيِّ وحتَّى مضيق السلام، تجاورها شرقاً دويلات صغيرة، وظهر اتِّحادُ المغربِ العربيِّ شاغلاً شمال أفريقيا وغربها مرتبطاً بمملكة الأندلس شمالاً بجسور ثلاثة، وإذا الشام اتِّحادٌ يضمُّ الإسكندرونة ولبنان والأردنَّ، والعراق يمتدُّ شرقَ حدوده المختزنة بذاكرتي وإلى الشمال الغربيِّ ليضمَّ ديار بكر، فيما اتِّحاد وادي النيل يمتدُّ على الساحل الغربيِّ للبحر الأحمر وحتَّى مضيق باب المندب مرتبطاً بجزيرة العرب بجسور شماله وجنوبه، وظهر اتِّحاد القرن الأفريقيِّ العربيِّ شرق أفريقيا، أما جامعة الدول العربيَّة فقد نهض التحالفُ العربيُّ بأدوارها السياسيَّة والعسكريَّة، لتنهضَ بأدوارٍ اجتماعيَّة وثقافيَّة وتنمويَّة واقتصاديَّة تنسيقيَّة متخلِّيةً عن الشَّجب والتنديد، إذاً لقد فشل مخطَّط كيسنجر رايس فيما طرحاه بالفوضى الخلاَّقة لتقسيم المقسَّم فيما سمِّي بالشرق الأوسط الجديد آنذاك. حينها تذكَّرتُ واقعَ الوطن العربيِّ المختزن بذهني عن أمنه واستقراره وتنميته فسألتُ هماماً وهل انتهت ثوراتُ الربيع العربيِّ وصراعاتُه الطائفيَّة؟ وهل اختفتْ التنظيمات الإرهابيَّة؟، فأجابني: نعم وعاد اللاجئون والمهجَّرون العرب لأوطانهم، ودُحِرت القاعدة وداعش والطائفيُّون الفرس والمرتزقة نفوذاً ومليشياتٍ، واختفت المعتقلاتُ والفقر والجوع والفساد والأميَّة والبطالة، فالعرب يأكلون ممَّا يزرعونه ويلبسون ويركبون ممَّا يصنعونه، بل ويصدِّرون فوائض منتجاتهم الزراعيَّة والصناعيَّة، ويعالجون أنفسهم ومرضى العالم بطبِّهم وبأدوية مختبراتهم، وتساعد جمعيَّاتهم الإنسانيَّة بتنمية الشعوب المتخلِّفة وبحماية حقوق الإنسان وحماية مناخ الأرض وبيئاتها. إذاً حقَّقتْ الرؤيةُ 2030 أهدافَها فنعمتم بمنجزاتها، قال: بل والرؤية التالية لها 2080، وها نحنُّ في عام 2117 بالسنوات الأخيرة للرؤية 2121، فصنعنا سيَّاراتنا وطائراتنا بأنفسنا وبعقول شبابنا وسواعدهم، وأنشأنا مفاعلاتنا النوويَّة السِّلميَّة واعتمدنا على مصادر الطاقة النظيفة المتجدِّدة، قلتُ: إذاً نضب نفطُ بلادنا، قال: كلَّا أوقفنا إنتاجَه بنهاية الرؤية 2030 وأنتجنا معادننا الفلزيَّة وصنَّعناها، وهل استغنيتم عن العمالة الوافدة؟، نعم بنهاية الرؤية 2030، وكيف حقَّقتم ذلك؟، قال: تحقَّق بتطوير تعليمنا العام والجامعيِّ وبرصد الوطن اعتمادات ماليَّة كبيرة للتعليم وللبحث العلميِّ، بل تستقبل جامعاتنا المئة مبتعثي العالم، عندها أيقظني ابني همام لصلاة الفجر فصحوتُ من نومي مسروراً لأستفتحَ يومي بمتابعة الفضائيَّات فتبيَّنتُ استغراقي بأحلام اليقظة والنَّوم فتشبَّثتُ بها آملاً متطلِّعاً متسائلاً، هل سيدلف العرب للقرن الثاني والعشرين بنقلة حضاريَّة يعيشها أحفادهم؟!!، لعلَّ ذلك وعسى.
مشاركة :