يعيدنا الجدل الدائر الآن في مصر حول عرض فيلم «سفينة نوح»، إلى تلك العلاقة المعقدة بين «حرية الاعتقاد» و»حرية التعبير»، أيهما تحوز الأولوية على الأخرى، ومتى تخضع إحداهما للأخرى، حيث رفض الأزهر عرضه، فيما انبرت أقلام عدة تطالبه بضرورة الموافقة على هذا العرض احتراماً لحرية التفكير والتعبير والإبداع، وتجسيداً للرؤية المستنيرة التي تتفق وفكر النهضة الإسلامية الذي كان جسَّده الإمام محمد عبده، والذي يتوجب على شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن يقتدي به، وإلا كان الأمر انحيازاً للرؤية الرجعية التي وقع فيها الأزهر وبعض شيوخه، ضد رواد التنوير المصري وعلى رأسهم الشيخ علي عبد الرازق في كتابه المؤسس «الإسلام وأصول الحكم»، الذي واجه به الملك فؤاد دفاعاً عن الدولة المدنية والدستور، ورفضاً للخلافة التي سعى إلى نقلها إلى القاهرة بعد سقوطها في اسطنبول. وفي اعتقادي أن اعتراض الأزهر لن يحول دون مشاهدة الكثيرين الفيلم عبر عشرات الطرق، بدوافع عدة يأتي الفضول على رأسها، غير أن تلك قضية أخرى، تحكمها اعتبارات عملية، أما موقف الأزهر المبدئي منها، والضغوط التي يتعرض لها بغرض قبول عرض الفيلم، فلا يمكن فهم سياقها إلا بالفصل بين تصورين متمايزين للتنوير ومستويين مختلفين للعلمانية: التصور الأول يتأسس على التيار الرئيسي في التنوير الأوروبي كما عبر عنه الفيلسوف الألماني كانط في كتبه «نقد العقل المحض» و «الدين في حدود العقل وحده» و «ما هي الأنوار». فكتاب نقد العقل هو ذروة أعمال كانط، بقدر ما أن كانط نفسه هو ذروة التنوير الأوروبي، وفيه يذهب الرجل إلى احترام فكرة الغيب باعتبارها مكوناً أساسياً في مفهوم الإيمان، نافياً حاجة العقل إلى انتهاكها كي يثبت عقلانيته لأن العقل الإنساني له مجاله الذي يعمل فيه، كما أن للدين مجاله الذي يعمل فيه، وكما أن تغوّل الدين (كإيمان روحي) على دنيا الناس إنما هو تدخل في غير محله يفسد الحياة ويصادر الحرية، فقد رأى أن طغيان العقل على عالم الروح محاولة لا طائل منها تثقل كاهل المعرفة، وتنتهك حرمة المقدس. لقد توصل كانط إلى حقيقة مفادها بأن العقل الإنساني قادر على المعرفة، ولكن صلاحيته غير مطلقة، بل محصورة في نطاق عالم الظواهر والوقائع، فإذا ما تجاوز هذا العالم إلى ما فوقه، والطبيعة إلى ما بعدها، حيث قضايا الألوهية، والخلود، والحرية، وقع في تناقض مع قدراته، وطوّح بنفسه إلى بحر الظلمات، وكهوف الشك. في هذا السياق يمكن أن نطرح للنقاش قضية العلاقة بين حرية الاعتقاد وحرية التعبير، والتي لا يمكن تقدير حدودها من دون فهم جوهر الاعتقاد ذاته، والجذر الذي ينبع منه داخل الكيان الإنساني، فالأديان لا تنتمي إلى عالم العقل المحض بل تعلوه، والإيمان لا يأتي استدلالاً من مقدمات تفضي إلى نتائج، ولا استقراء لحقائق تفرزها وقائع، بل هو إلهام يأتي من داخل ومن بعيد، من عالم الروح الجواني، وقوة الإدراك الباطني، ويقتضي هذا كله الإيمان بغيب لا يمكن الإطلاع عليه، والوثوق بحقائق لا يمكن تجربتها.. وإلا استحال الدين فكراً فلسفياً لا روحانية له مهما كانت عقلانيته أو جاذبيته. وهنا حاول كانط أن يقدم تفسيراً بلاغياً لمعجزات الكتاب المقدس بعهديه، فلم يعتبرها مجرد خرافات تدفعه إلى رفض الإيمان الديني، بل مجازاً يسعى إلى تبليغ العقل العام بمنطق هذا الإيمان المجرد. هذا التيار في فلسفة التنوير يؤسس لعلمانية معتدلة (سياسية)، وهو الذي يمكن أن ننسب إليه محمد عبده بعقلانيته المؤمنة، كما يمكن أن ندرج تحته موقف علي عبد الرازق، وأن نعاتب الأزهر على أساسه في موقفه الرجعي آنذاك من الرجل في معركة أظنها ستبقى مشهودة في مسيرة التنوير المصري، كما يمكن أن نثمن باسمه دور الأزهر وشيخه في تبني وثيقة الدولة المدنية قبل عامين، وأن نلومه على تردد ممثليه في الانصياع الكامل لمنطق هذه الدولة عند وضع الدستور الحالي قبل أشهر. أما التصور الثاني فينهض على التيار المادي في التنوير الأوروبي نفسه، والذي مارس نقداً جذرياً للكتاب المقدس، أخضعه كلية لمعايير العقل وللنزعة التاريخية، فلم يعتدّ بأية بلاغيات خاصة لتفسيره، على نحو انتهى بإثبات تناقضه والعلم، ومجافاته وقائع التاريخ، وأثار موجات إلحاد متنامية في المجتمعات الأوروبية، بل وإلى داخل التقليد الألماني المثالي ذاته الذي عبّر عنه كانط نفسه، والذي انطوى على ارتقائية ليسنغ وإنسانية غوته، ونقدية ماكس فيبر، فكانت هناك مادية فيورباخ وماركس وفرويد وصولاً إلى عدمية نيتشه الذي أعلن موت الإله. ومن ثم يؤسس هذا التيار لعلمانية متطرفة (وجودية) لا تتوقف عند حدود الفصل بين الدين والسياسة، ولا تكتفي بدفع الدين إلى حيّز الوجود الفردي بعيداً من المجال العام، بل تسعى، من دون إعلان عن ذلك، وأحياناً من دون وعي به، إلى تصفية الدين ونفيه سواء من الوجدان الفردي، أو من الوجود الاجتماعي، وحرمانه من دوره في رفد نظم القيم السائدة. هذا التيار يعكس روحاً اقتحامية للمقدّس هي التي تفضي إلى ظاهرة تجسيد الأنبياء، بل وتقع دوماً في غواية نقدهم، وأحياناً في فخ الإساءة إليهم كما جرى مع السيد المسيح في عشرات الأعمال، وهي التي يندرج في سياقها فيلم نوح بغض النظر عن نمط معالجته. تنهض الظاهرة على أساس مطلقية حرية التعبير والتفكير، غير أنها، وتلك مفارقة، توقر مقدساً وضعياً/ سياسياً على منوال واقعة (الهولوكوست) فلا تسمح بمساءلة روايتها التاريخية المقدسة في الفكر الأوروبي السائد الذي غالباً ما يحاصر ويعزل الخارجين عليه باعتبارهم تجسيداً لتيار عنصري مارق على الثقافة السائدة، وهو ما حدث مثلاً للمؤرخ البريطاني ديفيد إيرفنج، والمفكر الفرنسي روجيه جارودي. ورغم أن التيار العنصري الحقيقي نفسه المتمحور حول اليمين الديني والقومي، والمتجذر في وعي المركزية الغربية، غالباً ما يكون مناوئاً لليهود، وأحياناً معادياً للسامية خصوصاً المكون النازي منه، فإنه دائماً ما يخسر معاركه مع أسطورة الهولوكست، بينما يربح كل معاركه التي يخوضها ضد الثقافة العربية الإسلامية، التي يتحيز ضدها التيار السائد في الفكر الغربي، أو يبدو محايداً، على الأكثر، إزاءها وما يتعلق بمعاركها مع التيار العنصري، فيما يحتفي بانتهاك حرمة الأنبياء باسم حرية الإبداع. لهذا فلا أعتقد أن الأزهر الشريف يستطيع الدفاع عنه إلا بمواجهة خطر فقدان مرجعيته لدى مسلمي العالم، فالعقيدة الإسلامية تؤمن بكل الأنبياء السابقين على محمد، وتدرجهم في تيار الدين التوحيدي/ الإسلام العام، فإذا ما قبل الأزهر تجسيد نوح عليه السلام، سيكون مضطراً لقبول تجسيد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإلا وقع في تناقض، وهو أمر يعزّ على ضمائر المسلمين الذين يجلّون نبيّهم ويرونه في أفضل صورة يصل إليها خيالهم، ولذا فإن كل تجسيد لشخصيته مهما بلغت من البراعة الفنية والإيجابية الفكرية لن تضيف إلى ذلك التصور شيئاً. أما إذا كانت أقل براعة أو إيجابية، وهو أمر متوقع طالما كان القائم بها عقل غربي يرى نبينا الكريم من منظور مسيحي، يندرج في سياقه من يعتبره مجرد قس مهرطق خرج على المسيحية، ومن يراه مجرد مقاتل شهواني نشر دينه بحد سيفه وعبر ترغيب مقاتليه بنكاح السبايا، ومن يراه مجرد مصلح قومي وإن أعطاه قيمته التاريخية، فعلينا أن نتصور سلبية هذا العمل أو ربما بشاعته، وما يمكن أن يمثله من إهانة لمشاعر المسلمين في العالم كله، أو يؤدي إليه من اضطرابات سياسية تفوق كثيراً ما حدث إبان أزمة الرسوم الدنماركية وأعقاب محاضرة البابا السابق بينديكتوس السادس عشر أمام طلاب جامعة هيزنبرغ. وعندها سيكون الأزهر بين خيارين أحلاهما مر: فإما أن يجاري غضب عموم المسلمين فيتبدّى وكأنه يقود موجة صدام ثقافات جديدة. وإما أن يتحفظ على غضب هؤلاء العموم، وعندها سوف يبدو مفرّطاً في حق نبي الإسلام إلى درجة تفقده مرجعيته، والتي لا تزال تلعب دورها كصمام أمان ضد نزعات التطرف الديني والعنف السياسي وإن بدرجة فاعلية متناقصة. وهكذا فإن المعركة الصحيحة للأزهر الشريف لا تكمن في قبول عرض فيلم، فهي قضية عبثية لا معنى لها، بل هي استثمار مرجعيته لمصلحة مهمته الأساسية وقضيتنا الجوهرية وهي الدفاع عن نقاء العقيدة من الكهانة والتطرف والإرهاب، ومن الزود عن دولتنا المدنية، أي علمانيتنا السياسية المعتدلة، التي أنتمي شخصياً إليها، وباسمها أعفي الأزهر وشيخه من هذا المطلب المتعسف، شرط التعامل بانفتاح مع كل أشكال الإبداع الأخرى التي تصدر عن واقعنا الدنيوي، فإذا كنا ندين كل محاولة لاستدعاء (المقدس) وتوريطه في الدنيوي، فلماذا ندفع الآن بالدنيوي إلى حد التحرّش بالمقدس؟ إن المهمة العاجلة التي أطرحها على الأزهر، وأتمناها على شيخه الجليل أحمد الطيب، كونها فريضة الساعة، إنما هي التطوير الجذري لمناهج العلم الديني على نحو يجعل طالب الأزهر وداعيته على إلمام بالتجربة الدينية كلها كما تشكّلت بالاحتكاك مع العقل الإنساني طوال التاريخ، وليس فقط تجربة الوحي التوحيدي، كي يصبح أكثر عقلانية وتفتحاً، على العكس مما هو قائم الآن حيث الاعتدال على مستوى القمة، فيما القاعدة تغصب الكثير من مظاهر ضيق الأفق، والتعصب ضد الأديان الأخرى. ولعل ذلك يتطلب التخلي عند دور في التعليم المدني، وإحالة طلابه وبنيته على الجامعات القومية، لأن خريجيه كثيراً ما يكونون أكثر تطرفاً، لأنهم يتلقون معرفة شرعية قشرية ومعرفة علمية سطحية، تنهض على ظواهر العلوم لا منهجها الشكّي، فتكون النتيجة قيام بعضهم بوضع معرفته العلمية بالكيمياء، مثلاً، في خدمة تطرفه الإخواني، واضعاً قنابل المولوتوف في خدمة المقولات الدوغمائية التي انغلق عليها وعيه، ومن ثم فإن التخلي عن هذا الشقّ من التعليم والتركيز على الشق الديني ربما يكون أكثر انسجاماً مع مهمة الأزهر الأساسية، وتلبية دوره التاريخي في رعاية الوسطية الإسلامية. تراث
مشاركة :