مستقبل العراق ابراهيم الزبيدي مهما اختلفت مقاييسنا ومواقفنا وتحليلاتنا حول (مدنية) العهد الملكي وديمقراطيته الناشئة، وسماحة طبيعة حكمه و(معارضاته) معا، فلا يختلف العراقيون كثيرا حول حقيقة أن الدولة كانت في أيامه نصف (علمانية)، ونصف (ديمقراطية)، ونصف (عصرية)، تخطو خطوات متأنية، ولكن مبصرة، وتعرف إلى أين هي ذاهبة، هدفها الحفاظ على روح التآلف والتلاحم في المجتمع، وتكريس سلطة القضاء، واحترام القانون، وتوفير أقصى ما يمكن من خدمات وإمكانات وظروف لتحديث الشخصية العراقية، وخصوصا الأجيال الجديدة، وتشجيعها على دخول العالم المتقدم المستنير. في زمن كانت فيه كيانات المنطقة العربية، عدا مصر ولبنان، هلامية متأخرة لا تعرف ما تعني (ديمقراطية)، ولا يؤمن حكامها بقيمة المتاحف والجامعات، ويستهجنون أن يكون بين منتسبيها فتيات سافرات، ثم يصبحن محاميات وطبيبات ومهندسات، ويستنكرون أن تتساهل الحكومة العراقية آنذاك مع الشاعر (معروف الرصافي) وهو يلقي قصيدة يقول فيها: علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ .. كلٌ عن المعنى الصحيح مُحـرَّفُ ولا يعجبهم أن يتسامح الملك فيصل الأول معه حين قال عنه (يعدد أياما ويقبض راتبا)، وحين يلتقيان يعاتبه الملك على قوله فلا ينكر ولا يجامل، بل يرد بصلف: (أتمنى ألا تكون كذلك). قليلون منا يستطيعون أن ينكروا أن العراق، كان في ظل الملكية، مجتمعا متآلفا متسامحا يعيش فيه العربي والكوردي والتركماني، المسلم والمسيحي واليهودي، الشيعي والسني، في أمن وأمان، في تجاورٍ حميد، وقبولٍ واقعي إلزامي بالآخر. ولأن أمن الدولة كان متماسكا في الداخل، كان في إمكان أي زائر، عربيا كان أو أجنبيا، يعبر حدودها بسهولة، ويتاجر، ويقيم، ويتزوج، وينجب، ويحصل على جنسيتها، لو أراد، دون عراقيل طائفية أو عنصرية. حتى أصبحت مطربة إيرانية الأصل (زهور حسين) مطربةَ العراق الأولى. وحين تغني بالفارسية، أحيانا، كان يطرب لها العربي والكوردي، المسلم واليهودي والمسيحي، الشيعي والسني، ولا يسألون عن أصلها وفصلها، ولا يطالبون بتسفيرها. والذي صنع أجمل ثلثيْن من تراث العراق الغنائي (صالح الكويتي)، كان من اليهود. واستعرضوا معي طوابير العباقرة (العراقيين) من الأدباء والمفكرين والشعراء والعلماء والفنانين التشكيليين والنحاتين والمخترعين ورجال المال والاقتصاد والقانون والصناعة والزراعة. ألم يكن أكثرُهم من أصول غير عراقية؟. أليسوا هم اليوم أثمن ما يملك العراق من إرث حضاري لا يقدر بثمن؟ كان ذلك حين كانت سماء الوطن صافية نقية خالصة من العصبيات والخرافات والمشاكسات القومية والدينية والطائفية، فكانوا، جميعُهم (عراقيين أولا)، قبل أن يكونوا شيعة أو سنة، عربا أو كوردا أو تركمانا أو صابئة، مسلمين أو مسيحيين أو يهودا. ولم يكن اعتزازُ أيٍ منهم بقوميته أو دينه أو طائفته أو قبيلته يمنعه عن تقديم ولائه لوطنه العراق على أي ولاء غيره. لم يكن الحكم آنذاك (مغتصبا) من طائفة دون أخرى، أو دين دون آخر، أو حزب دون حزب. ولم يكن وزراؤه ونوابه وقُضاته ومدراء مؤسساته وسفراؤه جهلة وأميين وعنصريين، وطائفيين، ومختلسين، ومزوري شهادات، ومهربين، وأصحاب مليشيات. كان مجلس الخدمة العامة اختراعا عبقريا حفظ للناس كراماتهم وحقوقهم، إلى حد كبير، في الوظائف والرواتب، وجَعَل الشهادة والخبرة والكفاءة وحدها مقاييسه الثابتة في التوظيف والصرف من الخدمة، ولم يكن حتى رئيس الوزراء يجرؤ على تجاوز أحكامها الثابتة. وثاني محطة إذاعة في الشرق الأوسط كانت عراقية، وأول محطة تلفزيون في المنطقة كلها عراقية أيضا. وأول مدرسة باليه في المنطقة كانت عراقية، وأول معهد فنون جميلة، وأول أكاديمية فنون. ومن أوائل الثلاثينيات، كان في العراق مجمعات تسويقية (هايبر ماركت)، أورزدي باك، بطوابق متعددة تغص بالبضائع المتنوعة، وفيه مقهى يطل على دجلة للراحة والاسترخاء. كان الفساد المالي في أدنى مستوياته، ومن يَثبت عليه قبول رشوة ولو بدينار يعاقب أشد عقاب. وكان العراقي حين يسمع بحادثة قتل، نادرا، يظل يتناقل خبرها أشهرا عديدة. لم يكن العراقيون يعرفون المخدرات، من أي نوع، رغم أن شعوبا كثيرة حولهم، إيران ومصر مثلا، كانت تغرق في أهوالها المدمرة. وكان جواز السفر العراقي محترما ومهابا أينما حل حامله وارتحل. وكانت الشهادات الدراسية العراقية مُعتَرفا بها في أرقى جامعات الدنيا الواسعة. نعم، كانت التجربة الديمقراطية العراقية ناقصة، وفيها كثير من التجاوزات والاختراقات والاستغلالات، ولكنها تجربة واعدة كان يمكن لها أن تتطور وتتعمق وتكتمل، لو حافظ (الضباط الأحرار) على حرمة الدولة ومؤسساتها، وصححوا أخطاءها، وحفظوا للمجتمع العراقي وحدته وأمنه وسلامه، ولم يفتحوا عليها حروب المكاسب والرواتب والمناصب. لقد ألبسوا مصالحهم الشخصية والحزبية والطائفية والعنصرية أردية الوطنية والدفاع عن الوطن، فقتلوا الإلفة والتسامح في الشخصيىة العراقية الواحدة، وأشعلوا الحروب الأهلية المدمرة، وأحيْوا الأحقاد النائمة، وصحُّوْا الضغائن، وأطلقوا المجازر وحملات التهجير والتسفير وخراب البيوت. ومع رحيل الزعيم عبد الكريم قاسم، واحتراق عبد السلام عارف، وطرد أحمد حسن البكر، وشنق صدام حسين، كان متوقعا أن يكون العراقيون فهموا الدرس، وأدركوا فداحة ثمن الحروب والانقلابات، واقتنعوا بأن التعايش، والتداول السلمي للسلطة، ومنع رجال الدين من التدخل في السياسة، واحترام الدستور وسلطة القانون، وضمان الحريات، وحده كفيل بإصلاح ما خربه تجار السياسة والوطنية، ولكن خابت جميع الظنون. وفي زمن الفوضى الحالي، والتقاتل والاستقواء بالأجنبي، ما زال جميع العراقيين، من أصحاء العقول والنفوس وعشاق الوطن الحقيقين، يتفاءل بالأجيال الشبابية الجديدة، ويحلم بأن يتسلموا الراية، ويعيدوا البسمة إلى ملايين الأيتام والأرامل والمهجرين. إلا واحدا هو أنا المسكون بالرعب من غد قادم مخيف. تعالوا نتفاهم. تأملوا ما فعلته وما تفعله بأمن الوطن وأمن أهله الأجيالُ التي ولدت أيام المد الشيوعي 1959، وأيام المد البعثي 1963، وزمن عبد السلام عارف الطائفي، ثم أيام فدائيي صدام ومخابراته وتقارير البعثيين ضد البعثيين، وحروب المخابرات العراقية والسورية والإيرانية والأمريكية والسعودية والكويتية، وحفلات الإعدام الجماعي المذاعة على شاشات التلفزيون، ثم في سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وحرب تحرير الكويت، والحصار. وأسألكم ماذا سيفعل بالعراق وبأهله، وبالمنطقة والعالم، جيلٌ ولد في عام الغزو الأمريكي، وما جاء بعده من سنوات التطهير الطائفي والعرقي والديني، ومن (جهاد) المقاومة السنية ضد الاحتلال، واقتحامات (الهامفرات) الأمريكية لمنازل آمنة، بوشايات وتحريضات يسربها لها حلفاءُ قوات التحالف من قادة الأحزاب والمليشيات الدينية الحاكمة اليوم؟. فماذا يُنتظر من طفل سني فتح عينيه على جنود الأمريكان وهم يداهمون منزله ويأخذون أباه أو أمه أو أخاه أو أخته، ويغادرون، ولا يعود يعرف عنهم شيئا. أو ذلك الذي شاهد حملات الاعتقالات والتهجير والتصفيات الثأرية الطائفية التي شنتها عليهم أحزاب السلطة ومليشياتها؟ وماذا عن الذي نشأ وترعرع في خيم المُهجرين، أو البراري القاحلة، فلم يعرف سوى الجوع والبرد والخوف وإهمال الحكومة؟ وماذا عن الذي تربى في أحضان داعش، فأتقن فن الذبح بالخنجر والسكين، وكره الشيعي، واغتصب المسيحية، وأخذ الجزية من المسيحي؟. ثم ماذا تنتظرون من فتى شيعي ولد أيام العودة (المظفرة) من إيران لـ (مجاهدي) منظمة بدر، وحزب الدعوة، والمجلس الأعلى، وباقي الأحزاب والتنظيمات والمليشيات، فعلـَّموه فنونَ القتل والخطف وتفجير المفخخات وحرق الأسرى واحتلال مساكن السنة والمسيحيين، فقضى نصف عمره في تلقي دروس الثأر التاريخي من ورثة عمر ومعاوية ويزيد؟. أو من ألوف الشباب اليافعين الذين يحملون المدافع والقنابل والمسدسات ويعملون حراسا ومرافقين وفدائيين في مواكب نوري المالكي وعمار الحكيم وهادي العامري وأسامة وأثيل النجيفي وصالح المطلق ورافع العيساوي وخميس الخنجر وأياد علاوي وعلي حاتم سليمان؟. جيل من شباب اليوم، رجال الغد، قضى عمره في خيم النازحين، أو معسكرات المهجرين، أو في ساحات التدريب العسكري، أو في المسيرات الدينية المتواصلة. لم يبق في عقولهم ونفوسهم احترامُ لوطن، ولا لمواطن. ولا شيء من رحمةٍ بأحد، ولا محبةٍ لأحد. من هؤلاء، وبكل تأكيد، بعد عشر سنوات، وعشرين سنة من الآن، سيأتي رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء والمدراء والسفراء ورؤساء الجامعات والمدرسون والقضاة والقادة العسكريون والأمنيون. فاذا كان الذين قضوا سنوات طويلة في دول غربية وعربية أطعمتهم من جوع وأمنتهم من خوف فعلوا كل هذا بالعراق وأهله فتخيلوا معي كيف سيكون الوطن، وكيف سيكون أهله، على أيدي صبيان اليوم الجهلة الأميين الدمويين المتوحشين المتمرسين في الغدر والكذب والغش والاعتداء والخطف والحرق وتفجير المفخخات وقطع الرؤوس. وأحمد الله على أننا لن نكون أحياءً لنترحم على أيام نوري المالكي وهادي العامري وداعش، كا نترحم اليوم على أيام نوري السعيد، وعبد الكريم قاسم، وصدام حسين.
مشاركة :