بلغني نبأ وفاة ماركيز عند منتصف ليلة الخميس 17/4/2014، وجاء النبأ تأكيدا للأخبار المتواترة حول تراجع حالته الصحية خلال الأسابيع الماضية، وليس أمامي الا استعادة الكيفية التي تأسست بها علاقتي بفارس السرود السحرية-الملحمية طوال أكثر من ثلاثين عاما، قضيتها في ملازمة رواياته مدا وجزرا، قبل أن ينفك التحالف فيما بيننا، ويصبح ماركيز جزءا من ذاكرتي السردية، لكن نبأ موته أحيا تلك العلاقة معه قارئا وناقدا. فقد تناهى إلى سمعي اسمه، أول مرة، في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وأنا طالب في جامعة بغداد، حينما كنت أتردد على مكتبة المجلس الثقافي البريطاني في منطقة الوزيرية، كان اسم ماركيز يتكرر في الصحف الإنجليزية المعروضة في المكتبة، وكثيرا ما كان يشار إلى روايته" مائة عام من العزلة" بحفاوة كبيرة، واعتقد بأنني اطلعت، قبل تلك الفترة بسنوات قليلة، على بعض قصصه المترجمة، لكن صورته الكاملة لم ترتسم بعد في ذهني. حصلت على رواية " مائة عام من العزلة" لماركيز من إحدى مكتبات الباب الشرقي بغداد، وندر أن تفاعلت مع نص روائي كما تفاعلت مع هذه الرواية التي صدمتني، وهزت تصوراتي عن الرواية بداية من تذكّر لمسة الثلج المفاجئة في الصفحة الأولى إلى العاصفة التي تزيح قرية "ماكوندو" من الوجود في نهاية الكتاب. قرأتها مرتين متتاليتين، وجلدتها بغلاف أزرق سميك يقيها من فوضى تنقلات مكتبتي بين المدن العراقية، وتلك النسخة مازالت معي في الدوحة حيث أحرر هذه المقالة، وأنشأت ثبتا دقيقا لفهارس الأجيال الستة من سلالة " بوينديا " لكي أتتبع التشعبات المركّبة للأحداث والوقائع، ولأعرف الأنساب، والزواجات، وعلاقات السفاح، وطيران النساء، وإيقاعات الغجر، وكتائب المحاربين، فيها، وتبين لي أن السلالة تنحدر من" خوزيه أركاديو" الابن الأكبر " لأركاديو بوينديا" المرافق الشبق للغجريات، وليس من العقيد" أورليانو" الأخ الأصغر، مع أن الحضور الطاغي للعقيد، وتشعب علاقاته النسائية، في صفحات الكتاب يوحي بأن السلالة تنحدر منه، وتابعت سلالة "بوينديا بشغفها بالحب والقتل من " أركاديو" الأب إلى " أورليانو" الحزين، همت بالنص وصرت أتحدث به مع نفسي، وحلمت كثيرا به، وتخيلته نحوا من خمس سنوات، في لذة عارمة من التلقّي المثير الذي ندر أن وقع معي إلا مع" الدون كيخوته" لثربانتس قبل ذلك و" اسم الوردة " لأمبرتو إيكو فيما بعد. صدرت الرواية في عام 1967 قبل نحو ثلاثة عشر سنة من إطلاعي عليها، وفي الثمانينيات، حينما غرقت في النقد الجديد قرأت أن تودوروف اعتبرها "ملحمة العصر الحديث". فقد اشتقت معايير جديدة للبنية السردية في الفن الروائي، وأشاد بها كثيرا كبار النقاد والروائيين، ومثلي شغف بها الملايين، فقد عرفتها كل لغات العالم الحية. وحينما سئل ماركيز، مرة، عما يريد قوله في "مائة عام من العزلة " أجاب بما معناه: إنها حكاية أسرة تعتقد أنه إذا وقع فيها سفاح المحارم فإن الوليد سيكون له ذنب خنزير، وطوال مائة عام كرست كل وعيها وخبرتها وحرصها على ألا يقع هذا الأمر المحظور، لكنها من حيث لا تدري كانت تبذل قصارى جهدها لقرن كامل لكي يقع ذلك الحادث. فكرة الدنس، والسفاح، والعلاقات المحرمة، تتناثر في روايات ماركيز، وعموم الأدب الأمريكي اللاتيني، وجواب ماركيز عن السؤال يرفع نص الرواية من مستوى إلى مستوى آخر، يسمو بها لتكون إحدى أساطير المحارم، وهي لوحة عارمة بالمشاهد الملحمية الرمزية لتطلعات ذلك الجنس الحار من الهنود في الكاريبي، على خلفية من الصراعات والحروب الأهلية. آخر قراءاتي للرواية، وهي القراءة الرابعة، كانت في صيف عام 1984. قادتني هذه الرواية إلى العالم العجائبي الذي تخيله ماركيز، وصدتني عنه في الوقت نفسه، صرت أترقب رواياته بشغف، أتيت على كل ما ترجم له، أحببت بشكل مفرط روايته " وقائع موت معلن عنه" التي تحدد مسبقا مقتل بطلها "نصار" وتقوم على واقعة حقيقية حدثت لشاب تعيس هو ابن إحدى صديقات أم ماركيز، وقد منعته أمه من كتابة الرواية، بعد أن حدثها برغبته في ذلك، كيلا يستثير حزن صديقتها، إلى أن اتصلت به في برشلونة بعد ثلاثة عقود وأخبرته بوفاة الأم، ومنحته إذنا بالكتابة. وتعلقت برواية" الحب في زمن الكوليرا" للشيخوخة الحية التي تكتنز حبا لا مثيل له، ورغبة جارفة بالنساء، وأحببت روايته القصيرة " أنديرا البريئة وجدتها الشيطانية" للقرار الذي اتخذته الجدة في بيع جسد حفيدتها إلى أن تفك ديونها، فتطوف بها قرى الكاريبي لذلك، وعشت لحظات ترقب وأنا أقرأ روايته القصيرة "حكاية بحار غريق" التي جرى تقليد ضعيف لها في الرواية العربية، وهي في الأصل تحقيق صحفي قام ماركيز به في عام 1955حينما التقى أحد الناجين الثمانية من كارثة كادت تغرق المدمرة الكولومبية "كالداس" ويدعى "فيلاسكو" وقد كشف له معاناته طوال تلك الأيام المريرة في بحر عاصف، لكنني لم أتفاعل مع "خريف البطريرك " ولم أتم قراءتها إلا بشق النفس، مع رغبتي الجارفة بمعرفة طبائع الاستبداد الذي صورته الرواية، ولم أتفاعل كثيرا مع رواية " ليس للعقيد من يكاتبه" فقد وجدتها قصة انتظار عقيد هرم لراتبه التقاعدي، خلال خدمته العسكرية في الحرب الأهلية، ولا وجدت استجابة من أي نوع ما تجاه رواية "في ساعة نحس" التي تعرض سلسلة من الفضائح الخادعة على سبيل الانتقام، وهي من رواياته المبكرة، وعزفت عن أي نوع من الاستجابة مع رواية " الجنرال في متاهته" التي خربت الصورة المتخيلة ل"سيمون بوليفار" الضبابية في ذهني، بوليفار الذي قاد حروب التحرير ضد الاستعمار الأسباني، قرأتها حينما كنت أبحث في خطابات الفتح الأسباني للقارة استعدادا لكتابة القسم الخاص بذلك في كتابي" المركزية الغربية". ولم أحب كثيرا قصصه القصيرة، مع أنها تصور ببراعة العصافير المرتطمة بأسلاك الكهرباء بسبب حرارة الصيف الكاريبي، وتصور الأمطار الجارفة لجثث الحيوانات في الشوارع الطينية، باستثناء تلك القصة التي تقع أحداثها بين أسبانيا وفرنسا في ليلة عيد الميلاد، وفيها يتابع الراوي سيل الدم على الثلج عبر الجبال إلى باريس، ولم أعد قادرا على تذكر متى وأين قرأت هذه القصة التي تتقد كجمرة في غياهب الظلام. وكثيرا ما فكرت لو أنني اكتفيت بقراءة "مائة عام من العزلة" للحفاظ على تلك الدهشة الأخاذة، لكن القراءة كالترياق تحتمل الموت والشفاء، والقارئ مدمن على ذلك الترياق لا ينفك يغطس فيه يوما بعد يوم. لم أقرأ لماركيز منذ منتصف التسعينيات، فآخر ما قرأت رواية "الجنرال في متاهته" وعزفت عنه، وقررت أن أتوقف عن متابعته، فلم أعد أنتظر جديدا منه، بعد أن انكسر سياق التلقي لرواياته مع الوقت، كل تلك الدهشة بعالمه العجيب تبددت بمرور السنين، والآن وقد انتهيت من سيرته الذاتية " أن تعيش لتحكي" بترجمة أعدّها من أسوأ ما قرأت في العربية، تتداعى إلى ذهني تلك السنوات الفائقة الروعة حينما كان ماركيز يقتحمني كثور هائج، ويطوف بي في عالم الخرافات اللاتينية. أين تلك السنوات الجميلة؟ أين هي؟؟. وسط تعرجات سيرته المملوءة ترجمتها العربية بمئات الأخطاء اللغوية والأسلوبية– وماركيز يعترف بأن مشكلته الأساسية في الكتابة إلى الآن هي الأخطاء الإملائية التي تحير المصححين، ويبدو أن المترجم الضليع بالأسبانية(!!!)جاراه في ترجمته للكتاب-كشف لي ماركيز سرا رائعا، فأغلب رواياته وقصصه اشتقت من أحداث عاشها بنفسه أو رويت له، وأحداث استلهمها من التراث الخاص بأسرته: جده وجدته وأبيه وعموم عائلته، ووقائع أجرى تحقيقات صحافية عنها، في مقتبل حياته، وكثير من أحداث الروايات التي تمتعت بها قبل أكثر من عشرين سنة وجدت أصولها في السيرة، استعدت الدهشة المذهلة بها، لكنني وجدتها باردة جافة في كتاب السيرة، غبطت حياته العابثة المملوءة بتجارب ما قبل العشرين، تلك التجارب التي أسهب في وصفها، لكن سيرته لم تسم إلى أي من تلك النصوص الأخاذة لرواياته الكبيرة، فوقائعها شبه مغلقة، وفيها توثيق لأحداث ثانوية، ولم تتضح فيها أية رؤية للأحداث الكبيرة، ولا أدري أيّنا الذي ضربه التغيير؟ وأيّنا الذي تسبب في هذه الفجوة التي لا تردم؟ و أيّنا قطع حبل الوصال؟ وأرجح أنني أنا الذي تغيرت فلم أعد قادرا على تلقي نصوص ماركيز بتلك القوة التي كنت عليها قبل أكثر من عقدين، فقد نضبت انفعالات القراءة المدهشة، وحل مكانها تذوق عميق وبطئ بذلك العالم الساحر المتخيل. كنت أتلقف جمرات الكتب، وأنفخ فيها ناري، فتتقد فوق اتقادها، والآن صرت، بسبب النظريات النقدية، وطرائق القراءة التحليلية، واستنطاق النصوص، أكثر برودة من فيافي الشمال. أعمل فورا على إطفاء تلك الجمرات الملتهبة في الكتب!!!! راح وهج ماركيز يخبو في نفسي، وبه استبدلت بورخيس وإيزابيل الليندي، والآن أجدني عازفا بصورة كلية عن قراءة أي نص روائي له. ترقبت سيرته فقط لأكتشف الحياة التي غطس فيها هذا المارد الرهيب، وفيما إذا كنت واهما باندفاعاتي الهوجاء المبكرة في قراءته. ربما يعود ترقبي إلى أنني أنا الآخر في حالة اكتشاف وترقب الطريقة التي أكتب بها نفسي.
مشاركة :