ثقافة الخوف والدرس الأخير لسقراط بقلم: سعيد ناشيد

  • 2/20/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الخطاب الأصولي يتمحور في مجمله حول تخويف الفرد من نفق الموتوعزلة القبر حتى ينصهر في بوتقة الجماعة المؤمنة لقاء أن تؤمنه من رهبة الموت، ووحشة الوجود العابر. العربسعيد ناشيد [نُشرفي2017/02/20، العدد: 10549، ص(9)] أزعم في بادئ القول أن تاريخ الفلسفة يقدم لنا خلاصة أخلاقية وسلوكية محوريّة يمكن التعبير عنها على النحو التالي: الخوف هو العدو الأول للتفكير الفلسفي، وهو كذلك العدو الأكبر للحياة الفلسفية. طبعاً نحن نميز بكامل الوضوح بين التفكير الفلسفي والحياة الفلسفية، بحيث أنهما قد يجتمعان في بعض الفلسفات أحيانا مثلما هو حال الرواقية والأبيقورية، على سبيل المثال، لكنهما قد لا يجتمعان في نفس المنظومة الواحـدة، إذ في معظم الأحيان يهتم فلاسفة المعرفة بفن التفكير، ويهتم فلاسفة الحياة بفن العيش. لكن عدوهما المشترك هو نفسه في كل أحواله، الخوف. على وجه العموم، من منظور أخلاقيات الفلسفة العامة يُعتبر الخوف رذيلة، بل لعله أم الرذائل. لذلك، سيكون تحرير الإنسان من الخوف بمثابة المهمة الأخلاقية الأولى للفلسفة سواء في بعدها المعرفي (بلوغ الحقيقة) أو في بعدها المعيشي (بلوغ الحكمة). حول أولوية تحرير الإنسان من الخوف يتفق علناً معظم الفلاسفة في التاريخ، سواء كانوا ضمن خط التفكير الفلسفي أم ضمن خط الحياة الفلسفية، أم ضمن الخطين معاً كما هو الشأن في حالات معينة. عموما جميعهم شنوا الحـرب على الخوف كعدو استراتيجي، بدءا من سقراط، وأبيقور، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وإميل شارتييه (المدعو آلان)، وصولا إلى لوك فيري اليوم. لكن على الأرجح، لا يوجد فيلسوف يختلف مع فكرة أن الواجب الأول للفلسفة هو تخليص الإنسان من مشاعر الخوف، من حيث أن ذلك التحرير سيكون هو المنطلق الأساسي لتحرير العقل من الخرافة والعبودية والجهل والاتكال. مسألة أخرى، أصل كل المخاوف ومصدرها الأول هو الخوف من الموت. كل المخاوف التي قد تنتاب الإنسان في بعض المحطات والمنعطفات هي مجرّد تفريعات للخوف الأصلي من الموت، سواء تعلق الأمر بالخوف من المرض، أو الخوف من الحيوانات، أو الخوف من الحرب، أو الخوف من السجن، أو الخوف من التهديدات الإرهابية. بل حتى المخاوف العاطفية الاعتيادية نراها تحيل في آخر التحليل إلى الخوف الأصلي من الموت: الفقد، الفراق، الاستقالة، إلخ. لهذا السبب نفهم كيف يتمحور الخطاب الأصولي في مجمله حول تخويف الفرد من “نفق الموت” و“عزلة القبر” حتى ينصهر في بوتقة الجماعة “المؤمنة” لقاء أن تؤَمّنه من رهبة الموت، ووحشة الوجود العابر. بهذا النحو يصير الفرد جزءا من القطيع، لا يفكر، لا يقرر، لا يتساءل، لا يعترض، بل يقلد لا غير، بمعنى “يأكل القوت وينتظر الموت” كما يقال عندنا. هذا ما قد نسميه التوظيف الأيديولوجي للخوف الأنطولوجي. أكثر من ذلك، ثمة من يعتبر أن إلقاء الرّعب في القلوب بسبب أو بلا سبب واجب شرعي وفريضة دينية، بل فرض عين. فإن كان الرعب موجها إلى الأعداء فهو جهاد ونفير، وإن كان موجها إلى الأصدقاء فهو دعوة وتذكير. وثمة من يظن أن الخوف هو أساس الأخلاق لدى الإنسان. وهذا الظن مجرد فرية وافتراء. اللهم إن كان المقصود بالأخلاق أخلاق العبيد بالذات: النفاق، والمسكنة، والتذلل، والكذب، والخديعة، والشماتة، والتشفي، إلخ. بهذا المعنى أفلح الفكر الأصولي في الاستيلاء على مساحة كبرى تركها الفكر العقلاني منذ البداية غفلة منه أو استهانة، وتتعلق بالبُعد المأتمي في الحياة، حيث نرى الأيام تتساقط كأوراق الأشجار، وتذبل الأزهـار بعد وقت قصير، ولا يبقى من الأوقات سوى الذكريات. لهذا السبب أيضا صرح جاك ديريدا في حواره الأخير قبل وفاته بأن دور الفلسفة أن تعلمنا كيف نموت. مقصود قوله، إننا يجب أن نتعلم كيف نتحمل فكرة الوجود العرضي؟ كيف نتحمل فكرة الفناء؟ بالفعل، يحاول اليوم بعض الفلاسفة الجدد، أمثال لوك فيري وسبونفيل وغيرهما، خلق مساحة لنوع من “الروحانيات العلمانية” -هكذا يسميها لوك فيري- والتي بوسعها أن تمنحنا فسحة للمواساة الروحية للإنسان في الأجواء المأتمية، والتي لا تدري نفسٌ متى تلقى نصيبها منها. عموما، ليس يخفى تعويل المنظومات الأصولية في دعايتها واستقطابها للناس على تخويفهم من عوالم الموت الموحشة، أكان الأمر متعلقا بالموت الطبيعي، أم بالموت مع النفاذ المعجل. المهم بالنسبة إليها أن يشعر المرء دائما بأنه تحت التهديد الدائم. في الواقع، حين نكون تحت التهديد الدائم نصبح أمام خيارين: إما أن نأخذ التهديد مأخذ الجد، ومعنى ذلك أننا قد نأمن بعض الجوانب جراء الحذر الشديد، لكننا سنخسر في المقابل الأهم، القدرة على التفكير النقدي، وإما أن نتغاضى عن الأمر حتى لا نشوش على قدرتنا على التفكير النقدي. في كل الأحوال، هناك دائما ما هو أسوأ من الشيء الذي يمكن أن يخيفنا. ما هو أسوأ من الشيء المخيف هو الخوف من الشيء، بمعنى الخوف ذاته. وكما يقال، وحده الخوف ما يجب أن نخاف منه. درس آخر من دروس تاريخ الفلسفة، الخوف هو منبع أخلاق العبيد، أخلاق النفاق والمسكنة والحقد والكراهية والغدر والشماتة، إلخ. هذا عند هيغل ونيتشه أساساً، لكنه عند معظم الفلاسفة المعاصرين؛ كوجيف، سلوترديك، باديو، فيري، إلخ. أخيرا، لماذا رفض أب الفلسفة سقراط الهرب من زنزانة الإعدام بعدما أتاح له تلامذته الأوفياء فرصة الهرب؟ لماذا رفض التقدم بطلب العفو وقد أتيح له ذلك؟ لأنه لو هرب، لو عاش هاربا، لو اعتذر، لو عاش نادما، لما أمكنه أن يواصل شغفه بالتفكير النقدي. لماذا؟ لأن الهارب خائف، والخائف لا يفكر. هل هذا كل ما في الأمر؟ في واقع الأمر كـان سقراط في قرارة نفسه يدرك أن الهرب أو التخلي أو الاعتذار يعني، كل ما يعنيه، أنه سيدمر ما بناه بنفسه، وسيبدد ما زرعه بيديه: أسس الفكر النقدي، مـا يعني أن شجـاعة سقراط هي التي أنقذت العقل النقدي في الحساب الأخير، ثم وسمته بميسمها. ما الميسم المقصود؟ أنصتوا يرحمكم الله: يجب على العقل النقدي أن يتسم بشجاعة التفكير أولا، قبل شجاعة القول ثانيا، بل قبلها بدرجات ودرجات. هذا هو الدرس الأخير لسقراط، لكنه أيضا درس جميع الفلاسفة. كاتب مغربي سعيد ناشيد

مشاركة :