دَائمًا يُتّهم صَاحِب هَذا القَلَم الرَّشيق -أَمْزَح طَبعًا- بأنَّه ضِدّ المَرأة، ويَتحَامَل عَليها، ويَصفها بأوصَافٍ مَعروفة للقَاصِي والدَّانِي، ولَكن هَذا الأَمر لَيس صَحيحًا، فأنَا أُحَاول أن أتلمّس الحِيَاد، وأبحَث عَن الإنصَاف، وأتطلّع إلَى العَدْل في كُلِّ مَا أكتُب..! لذَلك دَعوني أتحدَّث اليَوم عَن جَلَافة الرَّجُل؛ وجَفَاف أَحَاسِيسه، ونعُومة المَرأة؛ وصِدق أحَاسيسها، مِن خِلال المِثَال، الذي سيَستولي عَلى البَقيّة البَاقية مِن هَذا المَقال..! كُنتُ -ذَات مَرّة- مُلازمًا لأحد أصدقَائي في أيَّام العَزَاء حِين تُوفِّي وَالده، وكَان بَيننا رَجُل لا تفوته أي وَليمة؛ مِن تِلك الصّحون العَامِرة بالأُرز، والمَكسوّة باللَّحم، والتي تَأتي كُلّ ظَهيرة وكُلّ مسَاء.. لقد كَان يَلتهم الطّعام كدَابّةِ الأنعَام، دُون أنْ يَتفكّر بالمَوت، أو يَتأمَّل الدُّنيا، أو يُراجع نَفسه، لأنَّ العُقلَاء إذَا سَمعوا أنَّ أحدًا مِن أصحَابهم قَد مَات؛ بَدأوا يَتفكّرون في مُستقبلهم ومَصائرهم، ودنوّ آجَالهم.. هَذا مَا يَحدث عِند العُقلَاء، أمَّا صَاحبنا المُتطفِّل عَلَى العَزَاء، فكَان يَحفر صَحن الأُرز بيَده، ويَأكل اللُّقمَة ورَاء اللُّقمَة وهو يُردّد عِبَارة: (الزَّاد للحي)، ويُؤكِّد هَذه العِبَارة قَائلًا: (إنَّ الأموَات لا يَأكلون).. ولا أستَبعد أنْ يَقول حِين يَنتهي مِن طَعامه: (سُفرة دَائمة، والله يبارك في السَّبب اللي جَمَعْنَا)..! هَذه صُورة مِن صور قَسوة الرَّجُل، ولَو انتَقلنَا إلَى صور المَرأة، لوَجدْنَاهَا أكثَر رِقَّة وأكثَر نعُومة، وأدفَأ مَشاعِر.. خُذ مَثلًا: ذَكرتُ لإحدَى قَريبَاتي أنَّ جَارتنا في بريطَانيا حَامِل، فقَالت مُباشرةً: (الله يخفّف عَليها)، بمعنَى أنَّها بَدَأَت تَشعر بِهَا وبآلَام حَملها..! وقَد حَدّثتُ أُختي العَزيزة مُنى؛ عَن صَديقي الذي غَاب عَن أُمّه لفَترة طَويلة، فقَالت مُبَاشرةً: (كَان الله في عَون أُمّه، وصَبّرها عَلى غيَاب ابنهَا)..! وأخيرًا قُلتُ لإحدَى خَالَاتي: إنَّ جَارنا في جُدَّة -بضم الجيم- تَزوّج عَلى زَوجته الأُولَى، عِندَها أَجهَشَت بالبُكَاء، وقَالت: (كَان الله في عَون زَوجته، ومَا أقسَاكم أيُّها الرِّجَال)..! حَسنًا.. مَاذا بَقي؟! بَقي القَول: آآآآه.. مَا أقسَاكم أيُّها الرِّجَال، فكَأنّ قلُوبكم مِن حِجَارةِ الجِبَال..!!! المدينة
مشاركة :