جامستجي تاتا، الذي تم تخليده باللون البرونزي الذي لوَّحتْه الشمس، وأكتافه تتوجها أزهار البرتقال الطازجة، يُحدّق بالمدينة في شرق الهند التي تحمل اسمه. قبل وفاته في عام 1904، رسم مؤسس مجموعة تاتا رؤية للبلدة النموذجية التي ستبنيها شركته في يوم ما حول أول مصنع صُلب لها.خطَّط لتوفير بيئة صحية للعاملين لديه على خلاف الأحياء الفقيرة التي تعاني الأمراض، التي كان قد شاهدها في أسفاره في أوروبا في القرن الـ 19. كتب في عام 1902 إلى ابنه دوراب، "تأكد من أن تبني شوارع واسعة مزروعة بأشجار مُظلِلة. احتفظ بمساحات واسعة لكرة القدم والهوكي والمنتزهات".اليوم، الطُرق المُشجّرة في جمشيدبور، التي تربط المرافق الممولة من مجموعة تاتا من الأكاديميات الرياضية إلى مستشفى من 900 سرير، تشهد على تراث الممارسة الأخلاقية التي تُعتبر واحدة من أكثر أصول المجموعة قيمة. المرافق تُديرها شركة تابعة لمجموعة تاتا ستيل، التي يدعي رئيسها التنفيذي أنها توفّر مياه صنبور الشرب الوحيدة الآمنة، التي يُمكن العثور عليها في أية مدينة هندية. على بُعد مسافة قصيرة بالسيارة، المسؤول عن أرشيف الشركة سواروب سينجوبتا يرأس قسم الرسائل والعقود والتوجيهات التي تُقدّمها مجموعة تاتا، التي هي الآن أكبر تكتل في الهند، كدليل على معاييرها الأخلاقية الصارمة.هنا تجد سِجلات الأزمة المالية التي ضربت تاتا ستيل في عام 1924، عندما وضع دوراب تاتا صافي ثروته بأكملها كضمان لقرض بدلا من تسريح ولو عامل واحد. هنا أيضا تجد دليلا على دور المجموعة الرائد في تقديم منافع حديثة - من المساعدة الطبية المجانية إلى إجازة الأمومة المدفوعة - قبل عقود من الوقت الذي أصبحت فيه إلزامية بالقانون. يقول سينجوبتا: "الأم تيريزا وشركة تاتا كانت بينهما علاقة قوية جدا على مر السنين".هذه هي شركة تاتا المألوفة منذ فترة طويلة للهنود ومراقبي الأعمال في جميع أنحاء العالم: مجموعة التزمت بمبادئ الخدمة العامة والمعاملة الإنسانية للعاملين والأحياء السكنية، قبل قرن من الوقت الذي أصبحت فيه "مسؤولية الشركات الاجتماعية" كلمة طنّانة.منذ أن أسس جامستجي شركته التجارية الصغيرة في عام 1868، توسّعت لتُصبح اسما كبيرا في الأعمال العالمية، مع مبيعات سنوية تتجاوز 100 مليار دولار. حتى وسط هذا النمو الهائل، احتفظت بسمعة القيادة المستقرة: في أول 144 عاما بعد تأسيسها في مومباي، لم تحصل المجموعة سوى على خمسة قادة، جميعهم من أحفاد جامستجي.هذه السمعة المحروسة بعناية للأخلاق والاستقرار، التي هي مصدر فخر لموظفي شركة تاتا البالغ عددهم 660 ألف شخص وللهند نفسها، مُهددة الآن من أزمة غير مسبوقة. بدأ الجيشان في تشرين الأول (أكتوبر) في العام الماضي عندما أقيل سايروس ميستري، أول رئيس مجلس إدارة جاء من خارج العائلة المؤسِسة، فجأة دون تفسير، الأمر الذي كشف التوترات المُتأججة بينه وبين سلفه راتان تاتا.تاتا، البالغ من العمر الآن 79 عاما، الذي أدار المجموعة لمدة 21 عاما قبل تسليمها لميستري، عاد إلى القمة إلى أن يُصبح بالإمكان العثور على خليفة دائم، واعدا باستعادة الاستقرار. إلا أن ميستري، من عائلة من كبار رجال الأعمال في مومباي التي لا تزال تملك 18 في المائة من الشركة القابضة تاتا صنز، رفض المغادرة بهدوء.منذ إقالته، أطلق ميستري سيلا من الادعاءات، تهدف إلى تدمير سمعة تاتا العزيزة للنزاهة والتعامل الواضح، فيما يقول إنه حملة لحماية مستقبل المجموعة على المدى الطويل من خلال إنهاء ما يفترض أنه عيوب في الحوكمة عميقة الجذور.شركة تاتا صنز رفضت مزاعم ميستري - التي ترواح بين انتهاك قواعد المعلومات الداخلية إلى صفقات تفضيلية مُنحت إلى أصدقاء تاتا - باعتبارها مدفوعة من ثأر شخصي، واتّهمته بتحقيق أداء ضعيف ومحاولة لجمع قوة مُفرطة.كبار الشخصيات في عالم الشركات في مومباي حذروا في محافلهم الخاصة من الخطر الذي تفرضه التداعيات على سمعة الشركات الهندية ككل. شركة تاتا إلى حد بعيد هي أكبر مجموعة تجارية في البلاد، مع منتجات تراوح بين المجوهرات والأسلحة الثقيلة، ومن الصُلب إلى ملح الطعام. وهي واحدة من التكتلات الهندية القليلة التي بنت علامة تجارية عالمية بحق، مع أصول خارجية مرموقة تتضمن شركة صناعة السيارات الفاخرة في المملكة المتحدة جاكوار لاند روفر، وتنشر آلاف مهندسي تكنولوجيا المعلومات في الشركات الغربية الرائدة.بشكل حاسم، على الرغم من أن تاريخها الرسمي يُغفِل على نطاق واسع العيوب المعروفة مثل مشاركة العائلة المؤسِسة في تجارة الأفيون، إلا أن شركة تاتا تُعتبر بمثابة منارة للسلوك الأخلاقي والحُكم الرشيد في الهند، فهي شركة خالية من السلوكيات المخادعة التي اشتهرت بها كثير من نظيراتها.جرت مقابلات مُكثّفة مع مُطّلعين رفيعي المستوى في المجموعة والاطلاع على المراسلات الداخلية، تكشف الخلاف الذي ترك عالم الشركات الهندية يتساءل ما إذا كانت سمعة تاتا الفريدة يُمكن أن تتعافى مرة أخرى، عقب الاقتتال الداخلي العام الاستثنائي الذي لاحقها خلال الأشهر القليلة الماضية.إذا كانت حملة ميستري القانونية ضد مجلس إدارة تاتا صنز ستفشل، "فإن الضرر الذي لحق بالسمعة يُمكن إصلاحه، إلى حد ما"، كما يقول جيه إن جوبتا، العضو المنتدب في شركة أبحاث الاستثمار الهندية، SES. "مع ذلك لن تكون نفسها كما كانت. الفقاعة في الزجاج ستبقى قائمة". في الوقت الذي كان يستعد فيه تاتا للتنحي بعد عقدين من رئاسة مجلس الإدارة، في عام 2011، بدأت صور الفيلا البيضاء الصغيرة في جنوب مومباي تظهر حيث كان سيقضى فترة تقاعده. وفي حين أن المنزل الجديد يُعتبر فاخرا إلى حد كبير بحسب معظم المعايير، إلا أنه اجتذب مقارنات إيجابية بمكان إقامة يتباهى بالثراء مكون من 27 طابقا، على بُعد بضعة أميال إلى الشمال من مبنى بتكلفة تُقدّر بمليار دولار من يملكه موكيش أمباني، أغنى رجل في الهند.مرة أخرى، تأمّلت الصحافة شخصية تاتا المتواضعة، الرجل الذي كان قد أمر بأن يُسمح للكلاب الضالة بالبقاء في ردهة المقر الرئيس للمجموعة.علامة شركة تاتا التجارية الشخصية للتواضع تحسّنت خلال فترة عمله في مجموعة العائلة، حتى في الوقت الذي لم يكن يُخفي فيه الملذات المبهرجة، مثل سيارة فيراري كاليفورنيا الحمراء الساطعة.بعد العودة إلى الهند في عام 1962 بعد سبعة أعوام من دراسة الهندسة المعمارية في نيويورك، فإن الرجل النحيل البالغ من العمر 25 عاما أُدخِل دون ضجة للعمل متدربا في الحرارة الشديدة لأفران شركة تاتا ستيل الحارقة الكهفية في جمشيدبور. ثم تنقل في مناصب قيادية خلال الأعوام التي تلت، مكافحا لتحويل أعمال الإلكترونيات والمنسوجات المتعثرة في شركة تاتا، لذلك كان اختياره لخلافة عمه جيه آر دي تاتا رئيسا لمجلس الإدارة في عام 1991 بمثابة مفاجأة.يتذكر أحد المُطّلعين في الشركة منذ فترة طويلة: "جميع هؤلاء القادة قالوا، ’من هو راتان؟‘"، مُشيراً إلى مجموعة من كبار التنفيذيين في شركة تاتا. تاتا، الذي رفض إجراء مقابلة معه من أجل هذا المقال، أمضى كثيرا من أعوامه الأولى في المنصب يتعارك مع هذا الحرس القديم، ويُكافح لإقناع الجمهور الأوسع بإمكاناته. أخبر ذات مرة صحيفة فاينانشيال تايمز عن قراره بيع أعمال الصابون في شركة تاتا في عام 1993: "رد الفعل العنيف الذي تلقّيته، في كل من وسائل الإعلام والبورصة، ومن موظفينا في الداخل، كان مخيفاً بالنسبة لرئيس مجلس إدارة جديد".بحلول عام 2000، كان تاتا واثقا بما فيه الكفاية للتركيز على حملة للتوسع في الخارج من شأنها أن تتضاعف من حيث الحجم. من فندق بيير في نيويورك إلى علامة الشاي التجارية البريطانية تيتلي، وشركة الصُلب العملاقة البريطانية الهولندية كوروس، ذهبت شركة تاتا في فورة عمليات استحواذ أدت إلى ترسيخ المجموعة باعتبارها علامة تجارية دولية بارزة. اسم راتان تاتا توسع معها: كوفئ بسبب استثماراته في المملكة المتحدة بلقب فارس فخري في عام 2009. في بلاده، هيكله الطويل أصبح محدبا إلى حد ما الآن، أصبح يحظى بتوقير كبير باعتباره المسؤول صاحب الرؤية للشركات الهندية.بالنسبة لشخص يعرفه منذ فترة طويلة، فإن التزلف إلى تاتا أثار القلق مع اقتراب رئيس مجلس الإدارة من سن التقاعد الإجباري في المجموعة بعمر 75 عاماً. "في هذه المرحلة الأخيرة، رجل عادي أصبح رمزا. كانت صحته قد بدأت تعاني، ولا أشك أنه أراد حقا إيجاد خليفة. لم تكُن تمثيلية. المشكلة كانت أنه مُقتنع أنه لا يوجد من يصلح لأن يحل محله".التفويض الذي منحه تاتا في عام 2010 إلى إحدى اللجان لإيجاد بديل له أثار سيلا من التكهنات. مثل عمه، تاتا ليست له ذريّة، لكن اعتقد البعض أنه يُمكن أن يُحافظ على القيادة في العائلة من خلال اللجوء إلى أخيه غير الشقيق نويل. أشار آخرون إلى عمالقة أعمال عالميين من الجاليات الهندية في الخارج، مثل إندرا نويي، الرئيسة التنفيذية لشركة بيبسيكو. إلا أن اللجنة فاجأت الغرباء باختيار واحد من أحد أعضائها: سايروس ميستري، وهو مدير في شركة تاتا صنز لا يحظى بالتقدير الذي يتمتع به تاتا فعلا.على الرغم من أنه أصبح أول رئيس مجلس إدارة من خارج العائلة، إلا أن الرجل الذي يرتدي نظارة والبالغ من العمر 45 عاما كان يُمثّل أقرب بديل ممكن. مثل عائلة تاتا، تعود أصول عائلته في الهند إلى الهجرة القديمة للاجئين الزرداشتيين من بلاد فارس. جده الكبير بالونجي ميستري استغل الفرص للشباب الفارسيين الطموحين في منتصف القرن الـ 19، من خلال تأسيس شابورجي بالونجي، شركة البناء التي توسعت لتُصبح واحدة من أكبر الشركات في البلاد.شغلت عائلة ميستري مقعدا في مجلس إدارة تاتا صنز في عام 1980، على اعتبار أنها اشترت حصة أقلية في عام 1965. وأصبحت العائلتان أقرب بكثير نتيجة زواج شقيقة ميستري، ألو بنويل، أخ راتان تاتا غير الشقيق.ميستري، البدين الذي يتحدث بهدوء، تعرّف على تاتا أول مرة على طاولة طعام عائلته، حيث كان يستمع بصمت في الوقت الذي كان يتحدّث فيه الرجل الأكبر سنا عن الأعمال مع والده. ميستري، القارئ الحريص لمجلات الميكانيك الشائعة في طفولته، أنهى تعليمه في كلية دولْويتش في لندن، ودرس الهندسة في كلية إمبيريال في لندن قبل العودة للمساعدة في إدارة مجموعة شابورجي بالونجي في عام 1991.منذ ذلك الحين، كان يعيش في منزل عائلته في مومباي، قصر طويل، مليء بشكل سخي بالأعمال الفنية الهندية من القرن الـ 20 وبسيارتي جاكوار في المرآب السفلي، مبني على منحدر حاد يطل على بحر العرب. ميستري، المعروف بعمله لساعات طويلة، حافظ على حياة بعيدة عن الأضواء حين يكون خارج العمل، حيث يقضي الوقت مع زوجته وابنيه.يقول أحد الزملاء السابقين: "إنه ذكي جداً، ويهتم إلى حد كبير بالتفاصيل، لكنه أيضا رجل بسيط. في كل مرة يذهب فيها إلى الولايات المتحدة، يطلب شطيرة هامبرجر مع البطاطا المقلية وعلبة كوكا كبيرة من ماكدونالدز". مثل والده من قبله، انضم ميستري إلى مجلس إدارة شركة تاتا صنز، في عام 2006 بعمر 40 عاما، وخلال الأعوام الخمسة التالية كان يُنظر إليه على أنه هادئ، لكنه مجتهد في نظر زملائه المديرين، الذين دعموا تعيينه رئيسا لمجلس الإدارة على الرغم من افتقاره إلى الخبرة التنفيذية في شركة عالمية كبيرة".يقول أحد كبار المُطلعين في المجموعة: "كان رأيي أننا وجدنا أفضل خليفة. كان يملك كل ما نحتاج إليه: لديه نسب رفيع، وكان رجلا متواضعا، وكان مثقفا، وكان فضوليا، وكان يعمل بجد - الأمر المفترض أن تكونه بعمر 45 عاما".يدعي ميستري منذ ذلك الحين أنه رفض التفكير به لهذا المنصب عندما خاطبه تاتا أول مرة، حيث كان قانعا بالتحديات المعروضة في مجموعة عائلته، ولم يرضخ إلا بعد أن اتضح أن اللجنة المختارة "غير قادرة على تحديد مرشح مناسب". لم تكُن هناك دلائل عامة على الشكوك عندما تعلّم كيفية القيام بالعمل أثناء توليه منصب نائب تاتا خلال عامه الأخير في المنصب - تسليم طويل للمنصب الذي بحسب كل المعايير تم تمريره بنية حسنة من كلا الجانبين. في كانون الأول (ديسمبر) 2012، غادر القائد المستقر في مبنى على البحيرة على بُعد 120 كيلومترا من مومباي للاحتفال بعيد ميلاده الـ 75، تاركا خليفته ليستقر في منصب رئيس مجلس الإدارة في المقر الرئيس الحجري الفخم بومباي هاوس. في بعض من تصريحاته الأخيرة كرئيس مجلس إدارة، روى تاتا كيف كان قد أخبر الرجل الأصغر سنا "كن على طبيعتك ... وقرر ما تريد عمله ... لا أعتقد أنه من المناسب وجود شبح يتعقب شخصا ما". Image: category: FINANCIAL TIMES Author: سايمون موندي من مومباي publication date: الاربعاء, فبراير 22, 2017 - 03:00
مشاركة :