كان لا بد من إزاحة «الإخوان المسلمين» وحلفائهم من سدة الحكم والهيمنة أولاً، ليصبح ممكناً صدور الأعمال الشعرية الكاملة لحلمي سالم. ولا مبالغة. فحتى قبيل ثورة يناير بأعوام، كان حلمي سالم تحول إلى هدف للظلاميين، لإثبات وجودهم وقدرتهم على الحضور الفاعل (بالسلب، طبعاً). كشفت عن ذلك بوضوح موقعة قصيدة «شرفة ليلَى مراد»، التي تطورت إلى ملاحقته بعد فوزه بإحدى جوائز الدولة، لإلغاء منحه الجائزة، استناداً إلى تقرير «تكفيري» صادر من إحدى الجهات بخصوص القصيدة. قضيتان في المحاكم واجههما الشاعر في أعوامه الأربعة الأخيرة، الأولى بشأن القصيدة، والثانية بشأن الجائزة، تواصلتا حتى ثورة يناير، وما بعدها (رفضت وزارة الثقافة تنفيذ الحكم). والمفارقة أن بعضاً من أقرب أصدقائه من الشعراء قدم بيده حيثيات «نقدية/ أدبية» (في شكل مقالات منشورة، هنا وهناك) لإدانة القصيدة موضوع الجدل باعتبارها «قصيدة رديئة» فنياً؛ تلك الحيثيات التي أكملت إغلاق الدائرة التي نصبها حوله الظلاميون. وهي الصدمة الحقيقية الموجعة التي أذهلته، في أعوامه الأخيرة. وخلال العام اليتيم من حكم الإخوان، وصعود الظلاميين بشراسة وغطرسة إلى مواجهة الجميع، لم يكن ممكناً أن يخطر ببال أحد أن يقترح نشر الأعمال الكاملة لحلمي سالم، بعد نشر الأعمال الكاملة - في مؤسسات الدولة - لأشباه الشعراء. وكان لا بد من تحرير البلاد من القبضة الإخوانية أولاً، ليصبح ذلك ممكناً، مع المناخ المعادي التالي لسقوط الحكم الإخواني وحاشيتهم «الإسلامية». مقدمة عشوائية خمسة أجزاء تضم «الأعمال الشعرية الكاملة» لحلمي سالم، صدرت عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. خطوة تستحق الإشادة، أنقذت «الأعمال» مبكراً من عوامل تعرية الزمن والإهمال، التي تعرفها - في العادة - أعمال الشعراء المصريين والعرب. وتم الاحتفاء بها احتفاء أولياً - في جناح «الهيئة» - خلال الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب بحضور الأسرة والأصدقاء. يضم الجزء الأول مقدمة تشبه المفارقة، كتبها جابر عصفور، الذي لم يتحمس ذات يوم لتجربة شعراء السبعينات، وأطلق مبكراً في وجههم تصريحاً شهيراً: «لقد مات الشعر المصري بموت أمل دنقل» (تصريح ندد به حلمي سالم نفسه، في إحدى مقالاته المنشورة في الثمانينات). ولأنه كذلك، كان من الضروري أن يرتكب في الصفحات الثلاث الأولى ثلاثة أخطاء على الأقل؛ اثنان يرجعان إلى اعتماده بثقة على ذاكرة «خائنة»، والثالث يرجع إلى جهل بالخريطة الشعرية في ما بعد أمل دنقل. فقد كتب أنه قام بتدريس حلمي سالم في قسم الصحافة، والصحيح أنه قام بالفعل بتدريس «معلقة طرفة بن العبد» له ولي - أيضاً - في السنة الأولى، السابقة على دخولنا قسم الصحافة (كانت الدراسة عامة، بلا تخصص، لجميع الطلاب؛ ليبدأ التخصص من العام الثاني الجامعي. وقد هجرنا المحاضرات «المدرسية» عن طرفة، ولجأنا - بدلاً منها - إلى «شرح الزوزني» للمعلقات، فكسبنا الوقت اللازم للصعلكة الثقافية خارج الجامعة). وفي قسم الصحافة، لم يكن المقرر الدراسي يحتوي على مادة «اللغة العربية». ثم يقرر أن حلمي سالم تخرج العام 1973 في الكلية، والصحيح أنه تخرج في العام التالي (1974) لسبب مضحك، هو رسوبه - في امتحانات 1973 - في مادة اللغة الإنكليزية. أما ما يقرره من انضمامه إلى التنظيمات اليسارية خلال المرحلة الجامعية، فهو أيضاً معلومة خاطئة بلا مصدر ثقة؛ فضلاً عن افتراضات مشابهة أخرى، مرسلة بلا إثبات. أما الخطأ الأفدح، فيتعلق بظاهرة شعراء السبعينات في مصر، التي قسمها إلى «إضاءة» و «أصوات» (ولا غبار على ذلك)، لكنه يُخرج رفعت سلام من «إضاءة» - التي شارك في تأسيسها وإصدار أعداد مجلتها الأولى - ليضمه إلى شاعر خارج هذا السياق، هو محمد صالح. ذلك يعني أنه لم ير المجلة أصلاً، ولم تقع أعدادها الأولى بين يديه، في ذلك الحين أو لاحقاً، وإلا لرأى اسم رفعت سلام ضمن هيئة التحرير الرباعية. خريطة سهلة، وما أوضحها الآن بعد الكتابات الكثيرة عن «السبعينات» وشعرائها الأساسيين، إلى حد تراكم أطروحات الماجستير والدكتوراه عنهم. لكن... الآفة تكمن في أصل الشجرة. ومن بَعد، فثمة أفكار مبذولة - بلا منهج - عن تجربة حلمي سالم الشعرية، تمثل تجميعاً لأفكار نقدية عامة سبق أن خاض فيها وطرحها نقاد وأكاديميون من قبل. لا اكتشافات خاصة، ولا رؤية جديدة. لا معرفة بمصادر ثقافة هذا الجيل (ومن بينه حلمي سالم)، ولا بأفكاره الأساسية، ولا بدور مجلة «إضاءة» في بلورته، ولا بمقدمات الأعداد الأولى التي تمثل «مانيفستو» الجيل الجديد. لا إضاءة لخصوصية تجربة الجيل، أو تجربة حلمي سالم الشعرية، في إطار الشعر المصري والعربي. أما الحديث عن ثورة يناير - في سياق حديثه عن قصائد حلمي سالم الأخيرة - باعتبارها «ثورة مجيدة» من جانب وزير ثقافة مُبارَك إبان الثورة ذاتها، فيثير العَجَب! هل الأعمال «كاملة» ؟ في الشكل العام، تبدو «أعمال» حلمي سالم المنشورة متوافقةً مع النمط «العربي» السائد في نشر «الأعمال الكاملة» للشعراء؛ نمط يقوم على «تجميع» الأعمال المنشورة سابقاً فحسب، وإعادة إصدارها مُجمَّعة، متتاليةً وفق تواريخ صدورها، من الديوان الأول إلى الأخير. نمطٌ لا يجهد أصحابه أنفسهم في البحث عمَّا لم يُنشر من أعمال الشاعر، سواء في ما قبل ديوانه الأول، أو في ما بعد ديوانه الأخير، من قصائد تضمها مكتبته وأوراقه، وربما بعض الجرائد والمجلات الصادرة خلال حياته؛ أو حتى ما استبعده الشاعر - لأي سبب - من عملية النشر خلال حياته الثقافية (شأن ما يتم في الخارج مع الشعراء، ومن بينهم - على سبيل المثل - قسطنطين كفافيس، الذي نشروا له كامل أعماله، ابتداءً من قصائده «الأولى»، التي استبعدها خلال حياته من النشر، وصولاً إلى قصائده «غير المكتملة» وشذراته الشعرية الأخيرة). وقد سارت طبعة أعمال حلمي سالم على «النمط العربي» السهل: مجرد تجميع للدواوين بصورة متتالية زمنياً، لا أكثر. ولا هوامش تضيء الأسماء الواردة في النصوص، لا إيضاحات لبعض الملابسات والأحداث والوقائع العابرة في القصائد، لا تحقيق - من أي نوع - للنصوص، بخاصة قصيدته الشهيرة «شُرفة ليلى مراد»، التي نُشرت أكثر من مرة، وتنطوي مراتُ نشرها على بعض الاختلافات. بل إن القارئ المنتبه سيلحظ - في قائمة الأعمال - أن الديوان الأول لحلمي سالم إنما هو ديوان مشترك مع الشاعر رفعت سلام، صدر خلال سنوات الدراسة الجامعية، تحت عنوان «الغُربة والانتظار». لكن القارئ المنتبه لن يجد لهذا الديوان أثراً في هذه «الأعمال»، سوى هذا الرصد التأريخي. ولن يجد القارئ نفسه مَن يبرر له سبب استبعاد قصائد حلمي سالم المنشورة في هذا الديوان المبكِّر من طبعة «الأعمال الكاملة». إذاً، فحتى النمط «العربي» لنشر «الأعمال الكاملة» لا تستوفيه هذه الطبعة، التي سيتم الأخذ بها - كالمعتاد، على سبيل الاستسهال - في أية طبعات لاحقة لأعمال حلمي سالم. وبمرور الزمن، تضيع بذلك قصائد الشاعر السابقة على ديوانه الأول المنفرد: «حبيبتي مزروعة في دماء الأرض». وقد يكون «الاستعجال» هو سبب بعض نقائص هذه الطبعة، لتلحق بمعرض القاهرة الدولي للكتاب؛ وقد يكون الركون إلى التقاليد غير المنهجية في نشر «الأعمال الكاملة» لشعرائنا، ولكن الناشر نفسه - الهيئة العامة لقصور الثقافة - يمكنه تدارك هذه النقائص في طبعة جديدة (ثمة احتمال أن تكون الطبعة الحالية على وشك النفاد)، بإحالة الأمر برمّته إلى أحد الأكاديميين المتسمين بالرصانة والمنهجية، ليقوم بعملية «التحقيق» العلمية للأعمال، بكل ما تقتضيه من بحث في أوراق الشاعر وفي المجلات الأدبية ولدى أصدقائه المقربين في مراحل حياته المختلفة، ومن تدقيق للنصوص في حال نشرها أكثر من مرة، ومن تقديم الهوامش والإضاءات الضرورية المختلفة للإحاطة بالنصوص... إلخ. فلنعتبر هذه الطبعة - التي تستحق التقدير في الحالات كافة - خطوة تمهيدية لطبعة «كاملة» بالفعل، قادمة، نتمسك بإصدارها بإصرار، وبلا استعجال، هذه المرة. فذلك حق مطلقٌ للشاعر الجميل الراحل علينا، وذلك حقٌ لنا، في الوقت نفسه.
مشاركة :