قبل هذا الكتاب "التطور في الفنون.. وبعض نظريات أخرى في تاريخ الثقافة " للناقد الأميركي توماس مونرو كانت كل الكتابة الفنية عن تاريخ الفنون المختلفة تكاد تكون تقريبا متخصصة تخصصا دقيقا في فن أو زمان أو مكان بعينه، وغالبا ما تتناول تقريبا فنانا بذاته أو عملا واحدا من أعماله، أيضا كان من الأمور المألوفة تحاشي المسائل النظرية الكبرى أو التعجل في نبذها. ووفقا لمونرو كان الفرض الخاطئ القائل بأن الدراسة الصحيحة يجب أن تقوم على التخصص الدقيق لا يزال ساريا، لكن المسائل الكبرى في تاريخ الفن والثقافة لم تكن شغلا شاغلا للدارسين. لذا فإن هذا الكتاب الذي وضعه مونرو عام 1963 وصدر بالعربية عام 1972 بترجمة محمد على أبو درة، لويس اسكندر جرجس، عبدالعزيز توفيق جاويد، شكّل وقت صدوره عملا موسوعيا فريدا، ويعد الأهم من بين ما كتبه مونرو وتاريخه كأستاذ للفلسفة وعلم الجمال. كما يعد الكتاب واحدًا من أهم المراجع التى دائمًا ما يرجع إليها الطلاب والباحثون فى تاريخ الفنون والآداب، فلا يكاد يخلو بحث رصين فى هذا الباب من الإشارة إليه. إذ عرض تاريخ الفنون، منذ نشأتها، كما تتابع مراحل تطورها، موضحا أسباب هذا التطور، والظروف التى أسهمت فيه، مستمدا من معرفته العميقة بتاريخ هذه الفنون ونشاتها، وطبيعتها، والظروف البيئية والاجتماعية، بل والسياسية التى أحاطت بها، منهجا فى متابعة ورصد هذا التطور، وراصدا أيضا علاقة هذا التطور فى الفنون بتطور الأفكار وتاريخ الفلسفة والعلم. الكتاب الذي صدرت منه طبعة جديدة أخيرا عن سلسلة "ذاكرة الكتابة" والتي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، ليس مقصورا على مناقشة تطور الفنون، بل يسعى أيضا إلى إلقاء الضوء على كثير من النظريات والمسائل المرتبطة به، مثل التأثير النسبي للعوامل الوراثية والاجتماعية والنفسية، كما يبحث التعاقبات والمراحل المتماثلة في شتى الفنون في مختلف الثقافات. يردد نفس السؤال الذي تردد وتباينت الإجابة عنه مرات كثيرة، طيلة مائة العام الماضية، وهو هل تتطور الفنون بوصفها أجزاء من عملية أكبر ألا وهي عملية التطور الثقافي بصفة عامة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف وإلى أي مدى تتطور، وهذا بطبيعة الحال يتوقف على ـ وفقا لمونرو ـ تعريفنا أو تحديدنا للتطور، وستكون الإجابة المقترحة بالإيجاب إجمالا، مع كثير من القيود والاستثناءات. وهنا رأى مونرو أن الفنون بالتأكيد تتطور، ولكن من بعض الوجوه لا من جميع الوجوه، وفي بعض الأزمنة والأمكنة، لا في كلها، وفي خطوط متنوعة، إن التطور اتجاه مهم أو عملية رئيسية في تاريخ الفن والثقافة ولكنه ليس الوحيد، وقد تناهضه أو تقهره في بعض الأحيان حركات مضادة. وكما هو شأن بعض أنواع من النبات أو الحيوان، قد تتطور بعض أنماط من الفن إلى نقطة ما تقف عندها راكدة ساكنة، أو تتراجع عنها إلى أشكال أبسط. إن للتغيير في الفنون بعض خصائص تطورية يشترك فيها مع التغيير في سائر المجالات أو الميادين الثقافية، ولكن هناك كذلك فوارق مهمة بينهما. ويمكن أن ينطبق القول نفسه على التطور الثقافي عامة بمقارنته بالتطور العضوي. إن نظرية التطور في الفنون التي تحملها نظرية مونرو في الكتاب تقع بين طرفين متباعدين أولهما أصحاب مذهب التطور في القرن التاسع عشر الذين ينظر إليهم على أنهم بسطاء جامدون، وثانيهما المتشككون المتطرفون الذين ينكرون كل تطور في الفن والثقافة، ويخطئ هؤلاء ـ وفقا لمونرو ـ في الناحية السلبية، قدر خطأ أولئك في ناحيتهم الإيجابية. فقد بالغ الفريق الأول في التشابهات بين الظواهر الثقافية وفي شمول التطور الثقافي وانتظامه، على حين يبالغ منكرو التطور في الفوارق أو أوجه الخلاف، وأنهم بنبذهم مفهوم التطور الثقافي ليفقدون أداة ثمينة للتفسير والتنظيم في ميدان الفن. وأنهم ليتجاهلون الاتجاهات الدائمة وضروب التكرار والتعاقب التي تظهر في تاريخ الفن إذا نظر إليه على نطاق العالم. وأشار مونرو إلى أن "تطور الفن جملة هو تطور عنصر ثقافي واحد من بين العناصر الأخرى كالدين والعلم والتنظيم الاجتماعي، وهو تطور مركب أو مؤلف بالنسبة إلى العمليات التكوينية التي تصنعه: أي تطورات مختلف الفنون، والمدارس والتقاليد الفنية، وكذلك تطور أنماط الفن الثابتة مثل المقعد والصورة، وتطور الأساليب والتقاليد الأسلوبية. وفي تطور أسلوب معين كالعمارة القوطية أو موسيقى الباروك البوليفونية يستطيع المرء أن يتتبع تطور مختلف المكونات الثانوية، كالقباء الداخلية والنحت الخارجي في الكاتدرائية، وكالهارمونيا والكونترابنط، وتوزيع الآلات في الموسيقى. ويمكنه وصف كل تلك المكونات الثانوية بأنها تعاقبات أسلوبية مكونة، وبعضها تطوري بمعنى أنها تتزايد تعقيدا وبهذا تشكل تطورات أسلوبية مكونة بعضها ينحو إلى التبسيط أو الانحطاط، وثمة تعاقبات كثيرة واسعة النطاق كتعاقب الأسلوب التصويري الأوروبي من سنة 1300 إلى الوقت الحاضر تشمل اتجاهات وأطوارا تطورية وانحطاطية معا. ولفت مونرو إلى أن هدم واستبعاد جوانب غير مرغوب فيها من القديم هو جزء ضروري من الحياة كلها ومن النمو كله، كما هي الحال في التمثيل الغذائي الجسمي، وقد تهدم هذه العملية قيما أكثر من تلك التي تساعد على خلقها، غير أن التطور الثقافي بمعناه العريض يشمل جانبا تطوريا تعقيديا وجانبا تبسيطيا استبعاديا، وحين يسوء الجانب الثاني تتجه العملية كلها إلى الانحطاط. وقال "إن الأعمال الفنية أدوات من صنع يد الإنسان قصد بها أحداث تأثيرات سيكولوجية في المشاهدين: فرديا واجتماعيا، وهذه التأثيرات تتضمن استجابات إدراكية وتخيلية وعقلانية وإرادية وانفعالية، وتتضمن أيضا تكوين اتجاهات حيال أنواع معينة من العمل والعقيدة. هكذا تستخدم الأعمال الفنية، وهكذا ظلت تستخدم منذ الأزل، حتى في الحالات التي لم يقصد فيها الناس إلى ذلك شعوريا، وليس في ذلك أي تناقض مع كونها تستخدم أيضا وسيلة للتعبير الذاتي عند الفنان. ولفت مونرو إلى أن أوجه الشبه القائمة بين فنون شعوب لا رابطة بينها تدل على وجود قدر من الحتمية الفطرية، وإن لم تكن ذات قوة قاهرة، والحق أن ثبات اتجاه عمليات الفن أو تغييرها يرتبطان كليهما ارتباطا عليا بالسمات البشرية الأساسية وكذا بالعوامل البيئية، وغالبا ما ينحرف الفن والحياة نحو طراز متطرف أو آخر، ثم يتحركان لتصحيح التوازن. وأكد أن التطور الثقافي يعد شيئا نفسانيا بمعنى إجمالي طبيعي، فهو عملية تغير ونمو في الأفكار البشرية والاتجاهات والأفعال والنتاجات عن طريق التعلم والخبرة والممارسة، وتنطوي جميع أفكار أي فرد وأعماله داخل أية ثقافة على علاقاته بغيره من الأفراد والجماعات والنظم على أن بعضها له صفة اجتماعية مباشرة ووافية أكثر من غيرها، على حين أن بعضها الآخر يؤكد علاقاته بالأشياء المادية كالأدوات والبيوت، والطعام والنقود والملابس والأسلحة والمركبات، فهو يرغب فيها ويستخدمها وهي تساعد على تشكيل أفكاره. والحق أن عاملا ماديا أو اقتصاديا في حياته أو عاملا اجتماعيا ـ جماعيا يكون على الدوام سيكولوجيا أيضا، وكل ما في الأمر أنه دور واحد مختار من أدوار قيامه بوظائفه الشعورية الكلية، فإن التضاد بينها أو الجدل حول أيها أعظم نفوذا يقوم عادة على ضرب من التبسيط الاعتباطي كما يحدث من تعريف العامل السيكولوجي بأنه لا ينطوي إلا على السمات التي أشمل وأعم سمات الفكر والسلوك. ولكي يتمكن الوضع الاجتماعي الاقتصادي من التأثير في الفن أو الذوق لا بد له أن يؤثر في تفكير الناس وبذا يصبح عاملا نفسانيا بالإضافة إلى كونه عاملا اجتماعيا واقتصاديا، بل يبلغ الأمر أنه حتى الوراثة الفردية تعد إلى حد ما نتاجا اجتماعيا وثقافيا بفضل ما يحدث بين الناس من تزواج وعادات زواج، على أن ما في الفرد من استعداد وراثي لا يحقق نفسه إلا عن طريق تفاعله مع غيره من أشخاص وما لهم من نتاجات. وأوضح أن الفن يعبر على الدوام عن شيء يتميز به زمانه بوجه عام، وهو يعبر أيضا عن سمات إنسانية عامة معينة تتسم بها عصور كثيرة، على أنه في نواح أخرى يعبر عن جزء فقط من عصره، وفي العصور الغابرة كانت الجماعات المسيطرة هي وحدها التي استطاعت أن تتناول التعبير الفني الكامل، أما في الديمقراطية الحديثة فالتعبير أوسع انتشارا، وفي كل عصر من العصور يكون فن ما رجعيا ويكون آخر تقدميا، فإن في كل عصر من التنوع ما يفوق كثيرا ما يدركه الناس عادة. ورأى مونرو أن القدرة الخلاقة العالية في الفنون وغيرها من الحقول الثقافية تحدث على صورة انبجاسات غير منتظمة، في جماعات معينة في أوقات معينة، وكثيرا ما يحدث أن عباقرة في حقول كثيرة يظهرون في نفس المكان والزمان تقريبا. وهذا من شأنه أن يثير مسألة أخرى من مسائل العلية: ما الذي يجعل هذه الانبجاسات الخلاقة تحدث؟ ومتى تفعل ذلك وأين؟ وليست القدرة على الخلق والإبداع استثنائية إلى الحد الذي كان يظن يوما ما، غير أنها يقينا متفاوتة في التوزيع التاريخي. ولكي يتيسر للمرء أن يفسر ظهورها ينبغي أن يكون ذا قدرة على اكتشاف العوامل العلية أو المجموعات المركبة منها، التي تعمل بقوة غير مألوفة في أزمان وأماكن معينة، ولا شك أنه لا النظرية التطورية ولا نظرية الدور ولا النظرية الماركسية ولا أية نظرية حالية أخرى في التاريخ، بكافية لتفسير الحقائق. محمد الحمامصي
مشاركة :