حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. حركة تأليف نال موضوع الحنين إلى الأوطان عناية واهتمام العديد من علماء اللغة العربية منذ بدء عصر التأليف، وشهد القرن الثالث الهجري حركة واسعة في هذا المضمار، ومن هذه المؤلفات «حنين الإبل إلى الأوطان» لربيعة البصري، و«حب الوطن» لعمرو بن بحر الجاحظ توفي 255هـ، و«الشوق إلى الأوطان» لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني توفي 255هـ، و«حب الأوطان» لأبي الفضل أحمد بن طاهر، و«الحنين إلى الأوطان» لموسى بن عيسى الكسروي، و«الحنين إلى الأوطان» لأبي الطيب محمد بن أحمد بن إسحاق الوشاء المتوفى 325هـ، وغيرها من الكتب، بالإضافة إلى الفصول العديدة في كتب الأدب العام في التراث العربي. كتب مفقودة يعتبر كتاب «الحنين إلى الأوطان» لأبي منصور محمد بن سهل المرزبان الكرخي البغدادي، أحد أئمة الأدب والبلاغة البارعين، وأحد الفصحاء البلغاء، من أهم الكتب في هذا المضمار. ولد الكرخي، في بغداد وعاش فيها، وتوفي بعد سنة 322هـ ومن مؤلفاته: المنتهي في الكمال ويحتوي على اثني عشر كتابا وهي: مدح الأدب، وصفة البلاغة، والدعاء والتحاميد والألفاظ ونفائس الحكم، وجميعها مفقود، والشوق والفراق والحنين إلى الأوطان، والتهاني والتعازي والأمل والمأمول والتشبيهات والطلب والحمد والذم والاعتذارات. وقد حقق كتاب الحنين إلى الأوطان الدكتور جليل العطية، وقدم للكتاب بدراسة ضافية. أبواب مختلفة يتضمن الكتاب بعد خطبة المؤلف عددا من الأبواب هي: ما جاء في حب الوطن والحنين إلى البقاع لأهلها، ومن اختار الوطن على الثروة ومن اختار الثروة على الوطن وذل الغربة، وما قيل في نوح الحمام، ومن تداولته الغربة، ومن جسمه بأرض وقلبه بأخرى، ووصف الوطن بالطيب والنزهة، وما قيل في الأشجار والضياء والبروق وغير ذلك، وما قيل في حنين الإبل، وفي المساءلة عن الحنين، وفي التمني عن التغرب، وفي سرعة السير. حنين خاص يقول المؤلف في سبب تأليفه الكتاب: الذي حضني على تأليف هذا الكتاب مفاوضتي بعض من جلا عن وطنه، وحل بلادا أخصب من بلاده، في عيش أرغد من عيشته، فنال فيها عزا، بعد ذلة، ورفعة بعد ضعة، ولم يبق في البلد الذي حله إلا راغب فيه، أو راهب منه، فكان إذا ذكر الوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها، وكثيرا ما كان ينشد: لقرب الدار في الإقتار خير من العيش الموسع في اغتراب. فتصفحت كتابه فوجدته قد سلك فيه غير قصد من نظم كل كلمة إلى قرينتها، ورأيته ترك كثيرا من محدث الأشعار والرسائل وبارع الأخبار والمعاني اللطيفة في هذا الفن، فأخذت من كتابه ما استحسنت وضممت إليه ما سمعت بوبته لئلا يخرج عن سبيل قصدي في كتابي. مقتطفات *مما ذكره المؤلف مما جاء في حب الوطن قوله تقدست أسماؤه: (وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا)، فجعل القتال بإزاء الجلاء، وكفاك أنه عز وجل جعله عقوبة وجزاء للذين يحاربون الله ورسوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الخروج من الوطن عقوبة»، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «لولا حب الوطن لخرب البلد السوء»، وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان» * أخبرني بعض بني هاشم قالت: قلت لأعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية، قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى، رحمي ضرية، موضعة أرضها لعمر الله ما أريد بها بدلا ولا أبغي عنها حولا حفتها الفلوات ونفحتها العذوات فلا يملولح ماؤها، ولا تحمى تربتها، ولا يعمر جانبها، ليس فيها قذى ولا أذى ولا وعك، فنحن بأرفه عيش وأوسع معيشة وأوسع نعمة. قلت: فما طعامكم؟ قال: بخ بخ.. عيشنا والله عيش يعلل.
مشاركة :