كل ما تعتقد أنه حقيقة مطلقة ما هو إلا وهم سلام الشماع أثارت رواية صدرت، حديثاً، في عمان للروائي الفلسطيني أحمد أبوسليم بعنوان “ذئاب منويَّة” عاصفة من النقد بسبب عنوانها الذي يراه البعض صادما. ويرد أبوسليم على منتقديه بأنه لا يمكن الحكم على نصٍّ روائيٍّ من العنوان، فثمَّة الكثير من العناوين الصادمة، لكنَّها مقنعة تماما إذا ما قرأنا النصَّ، فالحكم على العمل الرِّوائيِّ يكون بدراسته دراسة كاملة، ثمَّ إطلاق الأَحكام. ذئب منوي يقول الكاتب “تأنيت كثيرا قبل اعتماد العنوان، فكَّرت لمدَّة عام وأكثر، ثم لم أجد عنوانا يلتصق بالنص كهذا العنوان، ومفردة ‘منيّ‘ وردت في القرآن الكريم، فهل ينزع هذا القدسيَّة عن القرآن الكريم؟ لماذا يريدوننا أَن ندفن رؤوسنا في الرَّمل كالنَّعام؟ ثمَّة ما هو موروث من دون الرُّجوع إلى العقل، وثمَّة خطوط حمراء في المجتمع وهميَّة، غير أنَّ الفضاء الإلكتروني لم يترك شاردة ولا واردة إلاّ ووضعها أَمام المتلقِّي في بيته، العنوان هنا يلخِّص الحالة الَّتي دُفع إليها المواطن العربيُّ كي يكون مجرَّد ذئب منويٍّ لا يرى سوى وجوده فقط حتَّى لو كان على حساب وجود الآخرين، تماماً مثلما يفوز حيوان منويٌّ بالبويضة كي ينتج الحياة، لكنَّ الذِّئب المنويَّ ينفي مليون حياة تحت شعار أَنَّه قد يُنتج الحياة”. وجاء عنوان الرواية المثيرة للجدل والنقد من رحم عبارة وردت في الرواية تقول “جعلونا يا صديقي مجرَّد ذئاب منويَّة تتصارع على بويضة واحدة، واحدة فقط، وأَقنعونا بأَنَّ الثَّاني خاسر مثل الأَخير، ضحكوا علينا”. رواية تلخص الواقع الذي آلت إليه الشعوب يعلق أبوسليم على نقاد روايته “ثمة من لا يستطيع أن يعيش الحاضر، فموقف هؤلاء النقاد يذكرني بما جرى لأحد أَصدقائي على الحدود، حين فتش رجال المخابرات حقيبته وهو عائد إلى بلاده، وراحوا يحققون معه بخصوص بعض الكتب في الحقيبة، فما كان منه إلا أن أَخرج من جيبه ‘الفلاشة’ وأخبر رجل المخابرات أَنها تحوي العشرات من الكتب… وأَنَّه حوّل عدداً آخر من الكتب إلى بريده الإلكتروني”. أبوسليم يرى أن رواية “ذئاب منويَّة” تحاول أَن تكسر السَّائد النَّمطي، تقارن بين مسيرة الأب والابن، وتلخص الواقع الذي آلت إليه الشُّعوب العربيَّة على طريقتها في فلسطين، ثمَّ العراق، وليبيا، وسوريا، ولبنان، ومصر، واليمن، وهكذا، مشيراً إلى أن هذه الرواية أَرادت أَن تقول إنَّ الواقع وهم، والحبّ وهم، والحرب وهم، والحقيقة وهم، وكلّ ما تعتقد أَنَّه حقيقة مطلقة ما هو إلاَّ وهم. ويطالب بإطلاق حريَّة التَّفكير للمبدع “دعه يقُل ما يريد، ويجرِّب كما يريد، لا تكمِّم فمه، لا باسم الواقع، ولا باسم الموروث، ولا باسم الدِّين، لأَنَّه في نهاية المطاف يخوض الحرب الحقيقيَّة الَّتي بوسعك لو انتصرتَ فيها أن تبقى على قيد الحياة، فكلُّ سقوط يسبقه بالضَّرورة سقوط فكريٌّ هائل، إذ أنَّ الهزيمة العسكريَّة والسِّياسيَّة لا تعد هزيمة إذا ما قورنت بالهزيمة الثَّقافيَّة”. يصف الكاتب الهزيمة الثَّقافيَّة بأنها أَخطر الهزائم على الإطلاق، فبها تنتهي كينونة الشعوب، وتنهار اللغات، خطوط الدِّفاع الأهم، وبذلك تبدأ المتوالية الحسابية بالانهيار، مؤكدا أن الاحتلال يمكن أن ينتصر ولكنه لا يستطيع اكتساب الديمومة دون هزيمة ثقافية. تداخل موسيقي يقول أبوسليم “يجب أَن نُعيد حساباتنا بدقة متناهية أَمام هذا الطُّوفان الَّذي نعيشه، والَّذي يأخذنا دون أَن نشعر إلى الجحيم، لأن أَخطر ما قد تواجهه الثَّقافة هو الإرهاب الفكري، بنظري نحن الآن بقدر ما نعيش تلاقح ثقافات، نعيش ابتلاع ثقافات، ثقافات كبرى تهيمن على الأصغر منها، وتبتلعها بهدوء، ما يعني إعادة صياغة الماضي، والحاضر، وبالتَّالي المستقبل، وكل ثقافة بها حاجة إلى جيش من المثقفين الذين يعون تماما ما يدور حولهم، يقرأون الحاضر، ويعيدون صياغته من جديد”. يختار أبوسليم لرواياته عناوين مثيرة للدهشة مثل “الحاسَّة صفر”، و”ذئاب منويَّة”، ثمَّ “كوانتوم”، لأنه يوقن أن العنوان مفتاح القارئ ليس إلى النصِّ فقط، إنَّما إلى الرِّوائي أَيضاً، فهو الذي يهيِّئ لك ما أَنت مقبل عليه. يصف روايته “الحاسة صفر” بأنها قد تكون أَوَّل رواية تؤرِّخ لما بعد خروج المقاومة من بيروت، ثمَّة فجوة مظلمة في الزَّمن، الكلُّ يتحدَّث عن اجتياح بيروت، والمقاومة، وخروج المقاومة، أمّا ما حدث بعد ذلك فلا يذكره أحد تقريبا. أَوَّل رواية تؤرِّخ لما بعد خروج المقاومة من بيروت ويضيف الكاتب “إن ‘الحاسَّة صفر‘ حاولت أن تلقي الضوء على حقيقة المقاتل الأُسطوري الفلسطيني، الذي أَخرجوه من كينونته الإنسانية، كان لا بدَّ له أَن يعود إليها، فتحدَّثت في هذه الرواية عن المقاتلين البشر، الذين يحبُّون، ويغضبون، ويكذبون، ويموتون بلا مقابل، ويدمنون الخمر، ويخونون أَحياناً، ويلتفتون إلى مصالحهم الذَّاتيَّة، تحدَّثت عن المخيَّم، ليس كمنتج للأَبطال فقط، بل كمنتج للكوارث الإنسانيَّة، في المخيَّم ستجد أَشدَّ الحالات الإنسانيَّة بؤساً، وتعقيداً، وأَلما، أَردتُ القول إنَّ المخيَّم رغم ما حاول الفلسطينيُّ فعله من تحويله من فضاء للجوء وفضاء للمقاومة، إلاّ أَنَّه مع ذلك مكان لا يُفتخر به، فهو نتاج الكارثة، وهو المكان الَّذي شكَّل البديل عن الوطن- فلسطين، وهو سيكولوجيا الجغرافيا المعقَّدة، وجغرافيا السَّيكولوجيا المعقَّدة، إن جاز التَّعبير”. يتابع أبوسليم “كنتُ صادقاً حتَّى آخر قطرة صدق، عاهدت نفسي منذ البداية أَلاّ أُخفي شيئاً، وأَلاّ أَضع على نفسي رقيباً، وأَن أَقول الحقيقة كلَّ الحقيقة كما أَعرفها، خضتُ في تفاصيل عشتها، ما دعا الكثيرين إلى سؤالي عن الحقيقيِّ والمتخيَّل في الرِّواية”. من جانب آخر تهيمن اللغة الشعرية على سرد أبوسليم، فهو شاعر أَصدر أَربع مجموعات شعريَّة، وروايتين سابقتين، ورواية منجزة لم تُنشر بعد، وثمَّة في الدُّرج أَيضاً قصائد كثيرة، وأَبحاث، ودراسات، ومقالات، منها ما نُشر في الصُّحف، ومنها ما لم ينشر بعد، وهو يعترف أن الشِّعر هو لغته، فهو يذوب في اللُّغة الشَّاعريَّة، لذلك نراه في الرِّواية يعيد صياغة الجملة العشرات من المرات أَحيانا من أَجل الوصول إلى لغة انسيابية تجذب القارئ، إذ يؤمن بأَنَّ الأَدب، رواية كان أو شعرا له وظيفة مختلفة في إعادة صياغة وجدان البشر، وأَن له تداخلا كليا في الموسيقى. يقول “في ‘الحاسَّة صفر‘ كان بطل الرِّواية شاعرا، لذا استطعتُ أَن أَتداخل مع لغته، وأُقدِّم رواية شاعريَّة، تحوي الكثير من الشعر، لكنَّني حافظت دائماً على هيكلها الروائي، ولم أَترك الشِّعر يسرق الحدث، بل حاولتُ أَن أُقدِّم حدثاً شيِّقاً بلغة شعريَّة، أَو شاعريَّة، أما في ‘ذئاب منويَّة‘ فقد حافظتُ على اللُّغة متدفِّقة الشَّاعريَّة حيثما يمكن ذلك، ولم أَستطع طبعا أن أواصل العمل اللغوي في بعض المقاطع الَّتي لا تستند أَصلاً على الوجدان، والتَّداعي”.
مشاركة :