"مانشستر من البحر" دراما سينمائية تطرح معاناة الفرد والعائلة بقلم: أمير العمري

  • 2/26/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

مانشستر من البحر دراما سينمائية تطرح معاناة الفرد والعائلةفي الفيلم الأميركي المتميز “مانشستر من البحر”، وهو ثالث الأفلام الروائية الطويلة للمخرج كنيث لونيرجان، هناك بحر، وليست هناك مانشستر، فاسم الفيلم هو اسم بلدة قريبة من بوسطن بولاية ماساشوسيتس الأميركية، تطل على البحر وبها شاطئ. العرب أمير العمري [نُشر في 2017/02/26، العدد: 10555، ص(16)]أداء تمثيلي من الطراز الأول لا يشعر الشاب لي تشاندلر (الذي يقوم بدوره كايسي أفليك) بطل الفيلم الأميركي “مانشستر من البحر” للمخرج كنيث لونيرجان، بالسعادة إلا وهو يشارك شقيقه جو وابن شقيقه المراهق باتريك، النزهة والعبث والمرح في البحر على القارب الذي يملكه جو، والذي أطلق عليه اسم والدته الراحلة. والبحر هنا معادل للتحرر، للانطلاق بعيدا عن القيود والتعقيدات التي نجمت، سواء عن إهمال أو بتدبير القدر، الذي يلعب دورا بارزا في الفيلم. كان من الممكن أن يسقط المخرج ببساطة في شباك الميلودراما بفعل السيناريو، لكنه ينجح ببراعة يحسد عليها، في الإفلات من فخ الميلودراما رغم الإغراء الكامن في السيناريو الذي كتبه المخرج نفسه، خاصة وأن موضوعه يدور حول ثنائيات مثل الموت والحياة، اللقاءات والافتراقات، الصراع بين الأجيال، العلاقة بين الكبار والصغار، الأقارب والغرباء، الحب الذي ينتهي بمأساة، وينتهي معه الشعور بالحياة الهانئة، والغضب الذي يؤدي إلى العنف وتدمير الذات. ومع ذلك، يصنع لونيرجان من هذه المفردات التي تدور حول خمس شخصيات رئيسية مكتوبة ببراعة، مع اختلاف مساحاتها في السيناريو، فيلما واقعيا شديد الصدق، يترك تأثيره عليك دون أن يبتز مشاعرك، وينتهي نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات، فالحياة تستمر رغم كل المعوقات، و”الأشياء تتغير” حسب التعبير البديع الذي نحته ديفيد ماميت في فيلم بالعنوان نفسه. بطلنا الرئيسي هو لي الذي يؤدي أعمالا متفرقة، من طلاء المنازل إلى تسليك البالوعات وإصلاح المراحيض، وهو يعمل في مدينة بوسطن، لكن غضبه واضح وجلي منذ بداية الفيلم، فهو عاجز عن التكيّف مع المحيط الاجتماعي، مما يؤدي إلى وقوع مشكلات مع زبائنه الذين يتردد عليهم.البحر في الفيلم معادل للتحرر، للانطلاق بعيدا عن القيود والتعقيدات التي نجمت، سواء عن إهمال أو بتدبير من القدر لي نموذج للشخص المنعزل، العدواني الذي يفتعل شجارا في حانة دون سبب واضح، ويرفض كل محاولة للتقرب منه من قبل “الجنس الآخر” رغم شبابه ووحدته، لكن براعة السيناريو أنه يكشف تدريجيا أسباب هذا الحزن والغضب والصمت، من خلال الانتقال المستمر بين الحاضر والماضي، سواء في لقطات سريعة خاطفة، أو عبر مشاهد كاملة، وتظهيرها في الفيلم في الوقت المناسب مع تطور الأحداث وتعقد الحبكة ودخول شخصيات أخرى إلى الحدث. تنقلب حياة لي رأسا على عقب بعد وفاة شقيقه جو جراء نوبة قلبية، فيعود إلى بلدته الأصلية مانشستر التي غادرها منذ سنوات وآثر حياة العزلة، لأسباب سيكشف عنها الفيلم في نصفه الثاني. يجد لي نفسه مسؤولا عن رعاية باتريك ابن شقيقه المتوفي بناء على وصية جو، ويركزّ الفيلم منذ تلك اللحظة على العلاقة المشدودة التي تنشأ بين شخصين شديدي الاختلاف يجمع بينهما رغم ذلك، الحزن. فالصبي باتريك لا يمكنه التأقلم بعد مع ذلك الغياب المفاجئ لوالده، وكان قد فقد منذ فترة والدته التي انفصلت عن والده بعد إصابته بالمرض لتغرق نفسها في الكحول، ثم تقلع وتتزوج رجلا كاثوليكيا يقنعها بأن تصبح مثله “مسيحية جيدة”. أما لي، فهو حزين على مأساته الشخصية التي أدت إلى فقدانه ولديه، ثم انفصال زوجته الحسناء راندي عنه بعد وقوع المأساة التي اعتبر هو السبب فيها، ثم تزوجت راندي من رجل آخر، لكنها ستعود بعد أن تنجب طفلا من زوجها الجديد، لتعترف لزوجها السابق لي بأنها غير سعيدة وأنها مازالت تحبه. الماضي جزء من الحاضر تجمع جنازة الشقيق المتوفي بين الشخصيات جميعا، لتفترق من جديد، ليظل باتريك عاجزا عن التأقلم مع الفقدان، فيهرب ليتخذ لنفسه أكثر من صديقة ويحاول الغرق في الجنس، رغم فشله المتكرر في مشاهد مضحكة تخفف من وطأة الكآبة التي تحلق فوق الشخصيات، ويحاول أيضا دفع لي إلى أن يحذو حذوه، لكن لي يظل حتى النهاية منكفئا على حزنه الخاص. تتداعى مشاهد “الفلاش باك” في الفيلم من ذهن شخصية لي الذي يستدعيها بكل ما فيها من سعادة وشقاء في مقاطع متفرقة عبر الفيلم، بحيث تكشف من خلال الانتقالات المحسوبة جيدا، عن ماضي الشخصية وعلاقاتها بالبلدة والبشر والعائلة، وإذا كان المخرج-المؤلف قد نهج نهجا مختلفا، كأن يروي مثلا الأحداث كلها في اتجاه واحد من خلال السرد التقليدي، فإن الفيلم ربما فقد الكثير من جماله وتأثيره، وإن كان يتعين القول إن هذه “الوصفة” لا تصلح دائما لكل المواضيع. يتميز الفيلم بتصويره الذي يتماثل كثيرا مع موضوعه؛ فالمخرج لا يستغرق كثيرا في القتامة الداخلية، بل كثيرا ما يخرج بالكاميرا إلى البحر، حيث تحلق السحب الداكنة لتلقي بهمومها فوق الصور في لقطات الميناء بوجه خاص، أو يتوقف بالكاميرا أمام الطبيعة الصامتة، أو يذهب للكشف عن جانب آخر من شخصية باتريك وهو يتدرب على لعبة هوكي (التزلج على الجليد)، ويختلق المشكلات مع أقرانه، وإلى المقابر حيث يوجد جثمان جو بجوار الجد والجدة، ولا تنقطع اللقطات الليلية البديعة بجوار الماء، لسيارة لي التي تذهب وتعود لأخذ باتريك. ويتغير مزاج الفيلم أحيانا ويكاد يخرج عن أسلوبه ويجنح إلى الكاريكاتورية، عندما نرى لي يجلس أمام والدة ساندي صديقة باتريك، وهي تحاول إغراءه والتودد إليه بينما هو صامت لا يستجيب، في انتظار أن ينتهي باتريك من مضاجعة ساندي في غرفة علوية! مزاج الفيلم يتغير أحيانا ويكاد يخرج عن أسلوبه ويجنح إلى الكاريكاتورية، عندما نرى لي يجلس أمام والدة ساندي صديقة باتريك، وهي تحاول إغراءه والتودد إليه بينما هو صامت لا يستجيب دراما عائلية الفيلم يقدم دراما عائلية عن الحب والفقدان والرغبة في التمسك الفطري بالحياة في مواجهة الموت، وكما ينجح، بواقعيته وبساطته، في التعامل مع الشخصيات في مرحها وشقائها، في التسلل إلى مشاعرنا، فإنه في الوقت ذاته يقدم أداء تمثيليا من الطراز الأول. إن أداء كايسي أفليك في دور لي هو أفضل أداء له حتى الآن، إنه يمثل بنظراته وإيماءات خفية من عينيه وخلجات وجهه، دون حاجة للحوار، ودون أن يحرك يديه في توتر وعصبية، بل ينتقل في التعبير من الغضب إلى الحزن، ومن الصدمة إلى الرفض إلى القبول بالأمر الواقع، من خلال الأداء “الخافت” الذي يخفي أكثر مما يكشف. إنه الأداء الداخلي الذي يعكس المشاعر أكثر مما يكشف النوايا، فنحن لا نعرف كيف سيتصرف لي في الموقف الذي يواجهه، وعلاقته بالصبي باتريك منسوجة جيدا في السيناريو، كما تلعب الكيمياء بينه وبين الممثل لوكاس هيدجز، دورا أساسيا في تكثيف تلك المشاهد البديعة التي تجمع بينهما. وجدير بالذكر أن الممثل الصغير هيدجز يتمتع بخبرة تمثيلية كبيرة، فهو رغم صغر سنه (20 سنة)، فإنه ظل يقوم بالتمثيل منذ 2007 في 12 فيلما إلى جانب مسلسل تلفزيوني، أي أنه يتمتع بخبرة لا بأس بها، وقد سبق أن عمل مع مخرجين مرموقين مثل ويس أندرسون في فيلم “فندق بودابست الكبير”، وتيري غيليام في “المعادل صفر”، وجيسون ريتمان في “عيد العمال”. لسنا بالطبع هنا أمام “تحفة” سينمائية رفيعة، فالفيلم يعاني من بعض الاستطرادات والتكرار مما أدى إلى بلوغه ساعتين و17 دقيقة، وكان يمكن أن ينضبط أكثر لو بقي في حدود الساعتين أو أقل قليلا، لكنه يبقى رغم ذلك، عملا جيدا نجح في استعادة روح أفلام أميركية حول مشكلات الفرد والعائلة، سبق أن قدمتها السينما الأميركية في الماضي. ناقد سينمائي من مصر

مشاركة :