﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عِندَ اللَّهِ اثنا عَشَرَ شَهرًا في كِتابِ اللَّهِ يَومَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ مِنها أَربَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ فَلا تَظلِموا فيهِنَّ أَنفُسَكُم﴾ [التوبة: ٣٦]فمن فرق في عندية الأيام لله بغير دليل، سواء كانت يوما وطنياً، أو عيداً إقليمياً، فقط أخطأ طريقه، و أضاع نجعته، ولم تسعفه الحجج..الأيام كلها لله، وهو وحده المتصرف فيها، فمن أوقع فيها شيئا من العبادات (لأنها توقيفية) بغير نص شرعي من الكتاب أو السنة؛ لم يقبل منه، وقد أساء..ومن أتى فيها بأمر مباح، أو نافع للخلق في الدين أو الدنيا، أو ذكّر فيها بأيام الله، فقد أحسن وأجاد..لافرق بين التكرار أو التخصيص في حكم الإباحة؛ إذا ما تعلق الأمر بأمور العادات، وإنما يتعلق التحريم بمسائل العبادات التي تفتقر إلى دليل يدل عليها إنشاء وتخصيصا وصفة وكما وكيفا وتكرارا، فتنبه..ومن حاول إضفاء صبغة شرعية على بعض العادات فيها، لاستنتاج التحريم لبعض وظائفها، مما اعتاده الناس وألفوه، مما أذن الله فيه وسكت عنه رحمة بالعباد، فقد أعظم على الله الفرية و أبعد طريقه.. وقد علمنا أن الأمور بمقاصدها، و أن و سائل الدعوة إلى الله تعالى اجتهادية، وليست توقيفية -وهو قول جماهير علماء الإسلام-، فيتخير الدعاة إلى الله الأصلح فيها، مما يوافق الشرع الحنيف، و ينتخب الأكثر تأثيرا منها، فيستخدمه الموفقون من الدعاة في دعوتهم ورسالتهم، باعتبارها من وسائلها، وليست من مقاصدها، فمن فعل ذلك كان موفقاً مأجوراً على فعله..فكذلك هو العيد الوطني؛ خرزة في عقدها، وواحد من جنودها ووسائلها التي انتظمت في مسيرتها، ويحمل نفس رسالتها وهدفها وأجندتها؛ إذا أحسنا التطبيق في تحقيق رسالته ولم نفرغه من مضمونه، أو نصفق فيه للفسدة..وما يقال فيه؛ يقال في غيره من الأعياد المبتكرة مهما كانت، فلا تخرج جميعها عن كونها مصالح مرسلة، لم نتعبد بعينها، بل هي وسيلة لغيرها من مقاصد وغايات، فإذا تضمنت الوسيلة محرما في نفسها أو مقاصدها التي وضعت من أجلها حرمت، وإن لم تضمن محرماً، فإنها تأخذ حكم مقاصدها: من واجب أو مستحب أو مكروه أو مباح..فصيام يوم عاشوراء في كل عام على سبيل المثال، كان صومه شكراً لله على نجاة نبي من أنبياء الله، وانتصاراً لدينه، وقيام دولته، وهو موسى بن عمران، فكان صومه رسالة تعزز هذا المعنى الجليل باليوم الوطني الذي أسس على تقوى من الله ورضوان، وهذا ظاهر في القياس على تجويزه هذه كعادة حسنة في الفرح بالوطن الذي قام على الشريعة والدين من باب أولى، وهو أولى من القياسات البعيدة لأجل تحريمه، فإن كان الصوم عبادة، واليوم الوطني في أصله عادة، وليس من العبادات في ذاته، كان تشبه المسلم بعوائده بِمَا يشبه الطاعة، مما يزيدها جمالاً، فضلاً عن تحريمها، وقد يؤجر الإنسان إن صحت نيته..فعن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال: (قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجّى اللَّه فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه)وفي رواية:(فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه)وفي رواية أخرى:(فنحن نصومه تعظيماً) أخرجه البخاري ومسلم.فليس العيد والعود والتكرار؛ مناطاً للتحريم في ذاته أصلاً كما يقال، وليس هو معمل لنقل العادات إلى عبادات، فهذا غلط قبيح، لا دليل يعضده لا في الكتاب ولا في السنة، بل هو أمر مخترع للتوصل إلى تحريم كثير من المباحات والطَّيِّبَات، وفيه تضييق على الناس باستخدام سلطان الشريعة -و لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-..فمتى كان تكرار الحلال أو المباح يصيره عبادة، ثم حراما لعدم الدليل – ما لم تنعقد له نية التعبد-؟!ومتى كان العود على العادات المرة بعد المرة يصيرها عبادات شاء صاحبها ذلك أو لم يشأ؟! ومن الذي يملك حق التصرف في نوايا الخلق و مقاصدهم وتوجيهها قصراً؛ لينقل أفعالهم من العادة إلى العبادة، لينتهي بأفعالهم إلى البدعة والتحريم، ثم يدعي أن الناس ملبس عليهم؟!ومن الذي جعل السرور والاجتماع على الخير المرة بعد المرة قبيح في نفسه أو في غيره ما يقع محرما مجمعاً على تحريمه في اجتماعه؟!هذا تحكم مرفوض .. بل دوام الفرح والاجتماع للبشرية مطلب، والإشادة بالإنجازات المرة بعد المرة حافز على الاستمرار والعطاء، ودوام التذكير بالنجاح والتلاحم والتماسك والقيم المشروعة والمندوبة مكسب، وهو من أجل وسائل التربية وترميم السلوك، والتأثير في النفوس، فمن خالف في ذلك، فقد خالف الفطرة..فمن فرق بين فرح وفرح، واجتماع واجتماع، وعادة وعادة، أو منع منها في وقت ورخص في آخر، وقعد لذلك القواعد، وجند لها أقوال الرجال، فعليه التوقف عند الأصل في العادات وتعريفها الذي يرفع الالتباس، ثم عليه أن يقدم دليلاً يخالف ذلك الأصل المنضبط في المسألة، لينقله من العادات إلى العبادات، ليدلف بعده إلى التحريم، وأنى له ذلك..﴿قُل بِفَضلِ اللَّهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذلِكَ فَليَفرَحوا هُوَ خَيرٌ مِمّا يَجمَعونَ﴾ [يونس: ٥٨]﴿خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجاهِلينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩]فإن العرف؛ هو ما تعارف عليه الناس، من سلوك وأخلاق في أي زمان أو مكان أو معاملات، وويدخل فيه كل ما خلق الله بين السماء والأرض من أسباب و وسائل، لتحقيق مصالح الناس وسعادتهم، وتسهيل معائشهم، لينتفعوا بذلك، وليبتغوا من فضله، كل ذلك مما أذن فيه ورخص فيه ما لم يخالف شرعاً..﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُم ما فِي الأَرضِ جَميعًا ثُمَّ استَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾ [البقرة: ٢٩]فالأصل في هذه العادات والوسائل الإباحة، كما أن الأصل في العبادات المنع والحظر، إلا ما استثناه الدليل..فمن نقل العادات إلى العبادات ليحرمها ويمنعها بغير دليل؛ أو العكس؛ فقد أساء وأخطأ طريقه..وليس أحد فوق الحق والدليل، ويبقى المجتهدون بعد ذلك بين الأجر والأجرين، وليس من حقنا أن نقطع مادة الخلاف من جهة أخرى، أو أن ننكر المعروف عند من خالفنا، أو نشغب عليه، وإنما الحرج في مصادرة الخلاف في تعفف وأدب..والله تعالى إنما خلق الخلق لعمارة الأرض، والسعي لإصلاحها، ونهاهم عن الإفساد فيها بعد عمارتها، وسكت لهم عن أشياء رحمة بهم، أن لا تفرض عليهم، وانتهى زمن التشريع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت النوازل والأقيسة الصحيحة لفهم بعض المسائل الطارئة، ومنها الكثير من العادات والتقاليد التي لا تخالف شرعاً، ولا تعترض حقاً..إن بحث بعض المسائل الشرعية بالظنة، طلباً للفقه في الدين، بطريقة فيها سلب لتلك المسائل عن أصولها التي جعلها الله عليها، وتحريم المباح منها، بما لا دليل على تحريمه لا في كتاب، ولا في سنة، غير أقوال الرجال، فيه تضييق على الأمة، وحرمان لها مما أباحه الله لأجلها، وهو يتساوى في الخطر، مع تحليل ما حرمه الله عليها..وإن مما يؤسف له؛ أن تسخر المقاصد قبل الدلائل، لتهدر بها الوسائل، وتشوه بها الحقائق، فتتعثر كثير من المشروعات النافعة، وتعاق حركة الأمم والشعوب عن التقدم فيما قد يسخر لنفعها وإسعادها من تلك الوسائل..إن مما أفسد كثيراً من الأفكار البناءة والمفيدة، والوسائل المباحة اليوم وفي كل يوم؛ كالأعياد غير الدينية في المجتمع المسلم محل مسألتنا هذه، مما تواطأ عليه الخلق اليوم من أقصى الدنيا إلى أقصاها، مما قصد منه تذكير الناس بأمر من أمور الحق والخير، أو تقوية الأواصر بينهم، كعيد الأم، وعيد العمال، أو أعياد الميلاد، وغيرها مما يفعل على وجه العادة لا العبادة، فالذي دفع كثيراً من أهل الفضل لتحريمها، يرجع غالباً إلى سببين:الأول: أنها لم تصغ بالطريقة الصحيحة ابتداء، بسبب تعدد الثقافات، وتركها في السوق السوداء للعرض والطلب والخلط، فتفرغ عن مضمونها، وربما خالفت أهدافها الحقيقية. سواء كان الخلل في العرض والتنظير الصحيح لها ممن تكلم عنها، ولم يصبغها بما يناسب خصائص الأمة و قيمها، وما لحق ذلك من عدم التطبيق والنزول بها إلى الميادين بالصورة الصالحة اللائقة بها، التي أقيمت في الأصل من أجلها، مما أغرى إلى تحريمها، ودفع شرفاء الأمة والغيورين لإنكارها، ولهم كامل الحق في ذلك حينها..الثاني: بعض قواعد بناء الأحكام غير المنضبطة التي انتهت بتحريمها، بسبب التباين والاختلاف، في تعيين مناطات هذه الأحكام، إن كانت من العادات أو العبادات، واختلافهم في تعين التشبه المحرم المعتبر شرعاً منها، من التشبه غير المحرم، فتوضع الأمور في سلة واحدة. وانتشار الأقوال بتحريمها في بعض المدارس الدينية، على نحو أكسبها أجواء من العصمة عند التابعين لأصحابها، من غير علم أو فقه، وما صاحبه من استصغار النفس أمام السؤال والنقد البناء لهذه الأحكام، من خلال البحث العلمي، مهما كان القائل بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كان له أبلغ الأثر على رفضها، والتحسس منها وتحريمها..وترى مناط التشبه المحرم على سبيل المثال، الذي بنيت عليه بعض أحكام التحريم، لا يستقيم في مثلها، إذ أن من بدهيات تعيين التشبه المحرم، أن يكون من خصائص القوم الذين نهينا أن نتشبه بهم، فإذا عمت به البلوى انتفى التشبه، وتعلق التحريم بمناط غيره إن وجد، إذا كان الفعل في أصله مباحاً، ولم يتضمن أمراً محرماً في نفسه، أو أفضي إلى محرم، مجمعاً على تحريمهما؟والقول بالقول يذكر أيها الفطن..فلو انصبت الجهود في تقويم المسيرة، وإصلاح الفكرة، وإعادة صياغتها، كتحريم الإسراف فيها، ومنع المنكرات التي قد تُبتلى بها، والدعوة إلى إصلاح ما فسد من وطننا من نافذتها، مع الإشادة بالإيجابيات التي حققها، وجعلها منبرا من منابر الدعوة إلى الله وإلى دينه في فعالياتها، وإبداء عالمية الإسلام، والإخوة مع جميع المسلمين من خلال مفهوم المواطنة الحقيقي فيها، وذم العنصرية المقيتة، وتسليط الضوء على أهمية حرب الفساد في الوطن ومقدراته، كما يحارب الإرهاب سواء بسواء، لكان أولى من مصادرة الفكرة برمتها، وتحريمها لاختصار الطريق، فنحن جزء من كيان المجتمع ونسيجه، وجزء من لبنات بنائه، وحماته..فلنحارب الفساد في الوطن، ولنحتفل بعيده وأيام الله فيه، ولنضع الأمور في نصابها، من غير إفراط ولا تفريط، فالعادة الحسنة فضيلة، إلا إن أسيئ استخدامها، أو غيبت مقاصدها، أو أريد بها النعرات الجاهلية، فإنه يفسدها، وقد يدعو إلى تحريمها، لحين إصلاحها..وما يقال في العيد الوطني؛ يقال في غيره من الأعياد لافرق، وسم ما شئت من الأعياد، مالم يكن إثما..ولن تجد في النصوص الشرعية نصاً واحداً صحيحاً، يحرم تلك الأعياد المستحدثة على وجه العادة، وغاية ما في الأمر أن الله شرع لهذه الأمة وأبدلها بعيدي الفطر والأضحى، عوضاً عما كان يتعبد به الجاهليون ويفرحون فيه بأعيادهم قبل الإسلام، بدليل علة التعبد في الفطر والأضحى، فكان المبدل من جنسه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: (ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) رواه أبو داوود، فلا علاقة للحديث بتحريم غيرهما البتة، وإنما الحديث عن فضل العيد والأضحى على غيرهما من الأعياد مطلقاً، وليس تحريما لغيرهما لا من قريب ولا من بعيد..أسأل الله العظيم رب العرش الكريم؛ أن يرد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى رشدها، وأن يرفع عنهم عبية الجاهلية، وأن يعصمها من رهبانية مبتدعة، ما كتبها الله عليها، وأن يردنا إليه رداً حميلاً، والله أعلم.أحمد حمودة حلميالرأيكتاب أنحاء
مشاركة :