يوسف أبو لوز الشعر الشعبي في منطقة الخليج العربي هو فعل لا قول (روح المكان)، وفي الإمارات بشكل خاص يمثل هذا النوع من الشعر جزءاً من طبيعة الشخصية الإماراتية وهويتها الثقافية والاجتماعية والجمالية، أضف إلى ذلك أن الشعر الشعبي هو أيضاً تاريخ المكان ونبضه، ونحن هنا عندما نقول (الشعبي) نردفه ب (النبطي). فهناك من يقول إن لا فرق بين (الشعبي) و(النبطي)، وهناك من يفرق بينهما من حيث اللغة والأوزان، وتبقى هذه التفصيلة نظرية إلى حد كبير وتخصصية إلى حد كبير أيضاً. فالباحث المتخصص في الشعر الشعبي أو النبطي هو من يعرف على وجه الدقة، وزنه أو عروضه، والفرق بين عروضه، وعروض الخليل بن أحمد الفراهيدي، فيما يتصل بالشعر الفصيح. الشعر (إن كان شعبياً أم كان نبطياً) هو في النهاية شعر (اللهجة)، وليس شعر (اللغة الفصحى)، وإن كان الكثير الكثير من (النبطي) ينطوي على الكثير الكثير من (الفصيح) كما سوف نبين ذلك بعد قليل. الشعر الشعبي أو النبطي هو في النهاية أيضاً ذاكرة المكان الإماراتي ومدونته الجمالية والوجدانية والإنسانية، والشعر، بشكل عام، إن كان فصيحاً أم كان شعبياً نبطياً هو صورة من صور الفروسية والبطولة، فالشعر مرتبط بصورة الفارس وثفافته ونبله، ومفهوم الفروسية مرتبط هو الآخر بمفهوم البطولة، ويأتي الشعر لكي يحتوي أو يستوعب المفهومين معاً. قول الشعر، منذ الماجدي بن ظاهر، مروراً براشد الخضر، وانتهاءً بالأجيال الجديدة التي تظهرها مسابقة (شاعر المليون) في الإمارات بشكل خاص.. هو قول الروح، وقول النفس، أو (قول القلب) إن جازت العبارة، ولذلك، فإن من أعذب الشعر الشعبي والشعر النبطي هو شعر الحب الذي يتمثل فيه النقاء والعفاف تماهياً مع نقاء روح البادية وروح الصحراء أو روح المكان الإماراتي بشكل خاص.قول الشعر، أيضاً، في منطقة الخليج العربي هو (إشارة إلى النبوغ والفصاحة والبلاغة، ونحن نعرف أن أهل الجاهلية، وما بعدها كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية، ليتعلموا الفصاحة، فما بالك إذا كان الشاعر الشعبي أو النبطي أو الفصيح هو في الأصل ابن بيئة صحراوية بدوية ملازمة إلى بيئتين أخريين تحديداً في الإمارات، وهما: بيئة البحر، وبيئة الجبال، ومن هذه البيئات الثلاث خرج أو ولد شعراء شعبيون ونبطيون.لقد كررت في الفقرتين السابقتين عمداً كلمة (قول) واستخدمتها في سياقها بشكل صحيح تماماً، فالشعر الشعبي وهو (شعر القول)، أي أنه شعر (المشافهة) أصلاً، وذلك أنه قبل الكتابة، أو أنه لا يكتب بل يُقال، وبالطبع اليوم يكتب ويُقال، وحتى على مستوى إلقائه، نادراً ما ترى شاعراً شعبياً أو نبطياً يقرأ من ورقة على المنبر، بل، غالبية شعراء النبط يحفظون شعرهم غيباً (استناداً إلى ثقافة القول، وثقافة المشافهة).. لا بل إن الكثير من شعراء النبط هم شعراء ارتجاليون.. الواحد منهم (يقول) القصيدة من أولها إلى آخرها، ولا تراه يعثر أو يتعثر في لفظة أو في سياق.هذه (المشافهة) أو هذا (القول) دفع الكثير من الباحثين الإماراتيين إلى عمل ما، يشبه المسح الميداني للبحث عن كبار السن الذين لا يقرأون ولا يكتبون في الإمارات، وهؤلاء زمنياً يعودون إلى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وهم كنوز شفوية قائمة إلى اليوم، وإن كان من إشارة وفاء واحترام للباحثين الذين قاموا بعمل لقاءات ميدانية مع هؤلاء كبار السن من الشعراء فلابد من الإشارة إلى جهد الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني، الذي كرّس وقتاً ثميناً من حياته الثقافية والبحثية.. فذهب بعيداً في الذاكرة الثقافية الشعبية الإماراتية، واقترب بجمالياته الناهلة من مفردات ومفاهيم الحداثة من روح الشعر الشعبي، وقرأه قراءة مغايرة تماماً لما هو سائد من مقاربات لهذا الشعر، التي جاءت عادة بلغة كلاسيكية أو فهم مرجعي توثيقي سطحي أحياناً، غير أن أحمد راشد ثاني يمتلك رؤية خاصة، على سبيل المثال، في فهمه لراشد الخضر بشكل خاص، وهو نفسه أحمد الذي كتب الشعر الشعبي في مجموعته المعروفة (يا الماكل خنيز ويا الخارق ذهب) بلغة محلية شفافة هي امتداد لروحه الصافية للمكان.اهتم بالشعر الشعبي والثقافة الشعبية باحثون آخرون: عبدالله الطابور، عبدالله عبدالرحمن، عبدالعزيز المسلم، سلطان العميمي، ولكن للأهمية هنا القول أو من المهم الإشارة إلى أن رائداً من رواد قصيدة التفعيلة والعمود الشعري في الإمارات وهو (أحمد أمين المدني 1931 - 1995) قد وضع كتاباً مبكراً عن التراث الشعري الشعبي في الإمارات، ويقول إنه حاول في بداية حياته الشعرية كتابة الشعر الشعبي، ولكنه انصرف إلى الشعر الفصيح.الكتاب الذي وضعه المدني عن الشعر الشعبي في الإمارات كتاب نادر ومن المؤكد أنه غير موجود في المكتبات اليوم.. وإن كان من دعوة حيوية عملية في هذه المادة فهي الدعوة إلى العثور على هذا الكتاب، وإحيائه، وإعادة طباعته، اقرأ ما يقوله المدني عن كتابه هذا يقول.. «.. هذا الكتاب هو أول محاولة لدراسة الأدب الشعبي، ولا أستطيع القول إني وفقت فيه تمام التوفيق، وذلك لقلة المصادر في الموضوع».ويرى د. المدني، قبل حوالي أكثر من ثلاثة عقود أن أبرز ملامح الشعر الشعبي في الإمارات هي سبعة ويوجزها كالتالي: الأول تقليد الشعر الشعبي الفصيح في معانيه وأغراضه، والثاني: الوصفية والإغراق في ذكر الجزئيات.. والثالث: الجبرية والوعظية وتصوير ما هو سائد من معتقدات وأفكار.. والرابع: عدم التقيد بالإعراب واللغة والتزام العفوية في التعبير.. والخامس: عدم الاعتناء بالأوزان الخليلية والاعتماد على الذائقة الفنية.. والسادس: الاهتمام بتصوير المآسي والأفراح المجتمعية والمناسبات المختلفة.. والسابع: ختم القصيدة بالصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (صفحة 28 كتاب: لآلئ من الخليج).طبعاً هذه الملامح السبعة التي أشار إليها المدني تعود إلى قراءته لنصوص شعرية شعبية مرّ عليها الكثير من السنوات، ولكن، اليوم تغيرت طبيعة القصيدة النبطية أو العامية أو الشعبية.. وشأنها شأن قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر ذهبت إلى فضاءات حداثتها، وانتقلت اللغة الشعبية أو النبطية من الوعظ والتصوير والمناسبات إلى لغة جديدة هي جزء من لغة العصر أو هي جزء من لغة الشعر الذي يتجدد في ضوء معطياته، وفي ضوء البيئة العصرية التي يولد فيها. فصحنة النبطي يرى الشاعر والباحث الإماراتي سالم الزمر (أن الشعر الشعبي المسمى بالنبطي في الإمارات ليس بدعاً من الشعر، وليس هجيناً بعيداً عن العربية بل هو ابنها، لغته لغتها لولا تحلل من قواعد النحو والصرف في العربية الفصحى، وشعرها كما قال شيخنا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة عن الشعر النبطي الذي سماه بدوياً، أما ألفاظه أي هذا الشعر فما هي إلا العربية الأصيلة التي تزخر بها مراجع العربية».انطلاقاً من هذه القناعة الثقافية، وضع سالم الزمر كتاباً يتألف من 272 صفحة من القطع الكبير بعنوان «النبطي الفصيح» يعيد فيه حوالي 288 كلمة شعبية أو نبطية إلى أصولها العربية الفصيحة.. وهذا الجهد الذي يحتاج إلى قراءة مستقلة متأنية.. إنما يأخذنا إلى الكلام عن ظاهرة موجودة وقائمة في الثقافة الشعرية في الإمارات.. والعمود الذي تقوم عليه هذه الظاهرة هو بالضبط ما أشار إليه الزمر، أي امتلاء الشعر النبطي أو الشعبي أو العام بالفصحى، ولذلك، يلاحظ في الإمارات أن الكثير من كتاب الفصحى من الشعراء الإماراتيين، بل وبعضهم كتاب قصيدة النثر هم في الوقت نفسه شعراء شعبيون: عبدالله الهدية، أحمد القسم، سالم بوجمهور، سالم الزمر، خالد البدور، أحمد راشد ثاني، وغيرهم.. وغيرهم.. فماذا يعني ذلك؟يعني أن الشعر الشعبي أو النبطي متأصل في المكان قبل الفصيح، وهذا طبيعي جداً، لأن الشفاهة تسبق الكتابة أو تسبق التدوين، ومرة ثانية، فإن قول الشعر في المكان الإماراتي.. سبق كتابته.. هذه نقطة، والنقطة الثانية أن أصل أو جذر الثقافة الإماراتية هو جزر كلاسيكي (ثقافة عربية إسلامية، القرآن الكريم، الشعر الجاهلي، المتنبي، نهج البلاغة، المعلقات.. وغير ذلك من مرجعيات).. والشعر الشعبي أقرب في روحه إلى روح هذه المرجعيات.. النقطة الثالثة: أن الشاعر الإماراتي أو الخليجي عموماً محكوم دائماً ب(الحنين) إلى ماضيه: إنه يحن إلى (الفريج).. يحن إلى (السكيك) يحن إلى البحر، يحن إلى الغوص، يحن إلى (خراريف) الجدات.. يحن حتى إلى (المطاوعة).. وهم المدرسون الأوائل قبل ظهور التعليم النظامي. إن متواليات هذا (الحنين) إلى أوليات المكان اجتماعياً وجغرافياً ومعمارياً وجمالياً يأتي من ضمنها مكون أساسي في الثقافة الشعبية الإماراتية وهو الشعر النبطي، وهكذا، وفي إطار (الحنين) الطفولي العفوي، يجد الشاعر الحداثي الإماراتي، وحتى شاعر قصيدة النثر نفسه في قلب ماضيه فيكتب، تلقائياً، شعر الماضي.. الذي هو الشعر النبطي.. وتحديداً الذي هو شعر (القلب).. وسنلاحظ، أخيراً، أن الشاعر الإماراتي الحديث لن يشعر بأية ازدواجية أو أية غربة تجاه ما يكتب.. فكما قلنا، فإن القاسم المشترك في الشعر هو اللغة.. والشعر النبطي الكثير منه فصحى، وبالتالي، عندما يكتب شاعر الفصيح شعراً شعبياً فهو كمن ينتقل من حجرة إلى أخرى.. ولكن في بيت واحد هو بيت العائلة. قاموس الخاطري هل يحتاج الشعر النبطي إلى قاموس؟.. لشرح بعض كلماته نعم يحتاج إلى مثل هذا القاموس.. ولكن ألا يحتاج الشعر الجاهلي اليوم إلى قواميس، وليس قاموساً واحداً؟ أصدر الباحث حماد الخاطري كتاباً بعنوان «أشعار قديمة وأبيات يتيمة» عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.. وفي الواقع، وما دمنا نتحدث اليوم عن الشعر الشعبي أو النبطي في منطقة الخليج العربي وفي الإمارات بوجه خاص.. فإن تذوق هذا الشعر يحتاج إلى صبر وإلى ما يشبه (الإصغاء) إلى لغة هذا الشعر وإيقاعها وعلاقتها ببيئتها المكانية والثقافية، وأرى أن هذا الكتاب هو تقريب حميمي للغة الشعر النبطي، وقبل ذلك ينطوي على صبر ومسؤولية باحث له مكانته وموقعه، في الثقافة التراثية الإماراتية، وكما تكمن قيمة هذا البحث في (الندرة) التي أشرنا إليها في بداية هذه المادة، فالباحث حماد الخاطري قام بجهد مضنٍ يتصل بالجمع والتحقيق لمئات القصائد ومئات الشعراء وأكثر من ذلك. وهو يقول.. «أحتفظ في مكتبتي بكم كبير من الإنتاجات الشعرية التي أتحفني بها الرواة، أمد الله في أعمار الباقين منهم على قيد الحياة».هؤلاء الباقون على قيد الحياة هم رواة الشعر الباقي في الذاكرة الإماراتية الشعبية، ولذلك، ننظر بتقدير إلى جهود الخاطري وغيره من الباحثين.. والجميل أنهم باحثون شباب ذهبوا إلى تراثهم ولغته، وقربوا لنا هذه اللغة بشغف ومحبة.أستطيع القول إن كتاب «أشعار قديمة وأبيات يتيمة» هو خزانة شروحات للمفردات الشعبية النبطية. إنه قاموس داخل كتاب شعر، هوامش من اللغة غزيرة ومفاجئة.. سنعرف مثلاً أن القماش هو اللؤلؤ، وأن الأسلاب هي الثياب، وأن المنعور هو الشجاع المقدام. وأن السد هو السر، وأن الحيد هو البعير، وأن العفايا هن النساء، وأن الفاطر هي الناقة، وأن الرفوك هو ذكر الأرنب. مادة غزيرة تليق بمكانة الشعر الشعبي أو النبطي في الإمارات التي لا تكف عن تكريم المبدعين في مجاله مادياً ومعنوياً، ذلك أن هذا الشعر هو عمود فقري لغوي جمالي، تنتهض عليه الثقافة التراثية الأصيلة في الإمارات.
مشاركة :