هل نعيش زمن أنسنة الشر ؟

  • 2/27/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

محمدو لحبيب في سيرورة الحياة يبدو بعضهم وكأنه يصارع طواحين الهواء في بحثه عن السؤال الوجودي عن ماهية الشر، يبدو وكأنه قابيل يمسك بيده وردة يظنها حمراء بينما هي في الحقيقة ميتة شاحبة، وفي يده الأخرى يمسك سكيناً مغسولة للتو من دم أخيه الذي لم يفكر ولو لثانية في مواراة سوءته. وهل للشر معنى أكبر من ذلك؟، قد لا يبصر هو وأمثاله أنهم وفي بحثهم عن ماهية الشر يبدون أكثر شراً، وكأنهم يعانون مأزق فهم الإنسان لنفسه على طريقة وليام دلتاي الذي يرى أن الإنسان غير قابل للفهم.هل من الممكن القول إننا أمام نمط من التفكير يحاول البحث في مفهوم الشر، بجعله لطيفاً، متفهماً، ومرتبطاً بمبررات مفاهيمية حتى ولو كان هذا الربط هشاً وقابلاً للنقض عند أول محاولة لتفحص تلك المبررات ونقاشها؟ هناك ذهنية تتجاوز ذلك الآن لتظهر الشر كمفهوم ثقافي عالمي، بسبب أدوات من قبيل هيمنة الإعلام الفضائي، قوة السينما الهوليودية، ومؤخراً وسائط التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر واليوتيوب وغيرها...، ويمكننا عندئذ الحديث عن بروز ظاهرة يمكن أن تدعى أنسنة الشر.إن الأنسنة في مجمل تعريفاتها كما يقول الدكتور عبد القادر فيدوح تتمحور فيما رآه شيلرالذي يعتبر أنّ قوام الأنسنة هو إدراك الإنسان أنّ المشكلة الفلسفية تخص كائنات بشرية، وأنها تبذل غاية جهدها لتفهم عالم التجربة الإنسانية، وتستعمل لأجل ذلك أدوات الفكر البشري وملكاته، وذلك طبقاً لما أورده شيلر في كتابه «دراسات في المذهب الإنساني Studies in Humanism». ماذا إذن لو ظهر الكائن الشرير بصورة بشرية؟ ماذا لو ألبس أو تلبس كل مقومات الوجود الإنساني وقيمه ومشاعره؟، إنه ببساطة عندئذ يطرح مأزق إعادة تعريف الشر، أو التجاوز عن التعريف نفسه نحو عالم من الحيرة والتناقض المنسجم في التعاطي معه.المثال على ذلك يبدو صارخاً في بعض منتجات السينما والدراما التلفزيونية الأمريكيتين، اللتين تسجلان نسب مشاهدة عالية جداً على مستوى كوكب الأرض ككل.ليس سراً أن الكثيرين حول العالم الآن ينتظرون بشغف بالغ ظهور الجزء الرابع من السلسة التلفزيونية الأمريكية «The originals أو الأصليون».لقد قررت الشركة المنتجة إنجاز جزء رابع منه بعد كم المشاهدات الهائل الذي حظيت به ثلاثة أجزاء سابقة من السلسلة التي تتحدث عن مصاصي الدماء الأصليين.يبدو الأمر جنونياً حقاً حين نعلم أن السلسة في البعد الفلسفي العميق لها، تظهر مصاص الدماء الأصلي الذي يتغذى على دماء البشر، كائناً يحب ويعشق ويتألم ويبكي و يهاجر عن وطنه و يتعلق بأرضه، ويحن للعودة إليها، ويساعد أجهزة الأمن فيها، و..و.. وكل صفات المواطن الصالح كما نعرفه نحن البشر.قد يقول قائل إن ذلك مثال منعزل يعبر عن تطرف الفكرة الإبداعية في الفن عموماً والسينما خصوصاً، لكن الأمر ليس كذلك، إنه اتجاه متنام ومتصاعد فيما يظهر، ومؤسس ثقافياً بشكل غير اعتباطي. المثال الثاني على مستوى الدراما التلفزيونية التي تلاقي رواجاً كبيراً وتؤثر في الناس هو السلسلة الأمريكية التلفزيونية أيضاً المعروفة ب «لوسيفر» التي تعني ابن الشيطان، ذلك المخلوق المجسد لأعظم الشر في معظم تعريفاته لدى كل البشر وفي معظم الديانات المعروفة على وجه الأرض منذ نزول آدم عليه السلام وحتى الآن، تحكي السلسلة عن لوسيفر الذي ينزل إلى الأرض ليكون متعاوناً في مكافحة الجريمة الجنائية، ومطاردة عتاة المجرمين والزج بهم في السجون تطهيراً للمجتمع من الشر.تظهره «شيطاناً» ظريفاً ساخراً يجيد استعمال الموبايل ومواقع التواصل الاجتماعي، ويحارب ضد وعده لأبيه بإعادة أمه إلى الجحيم، وخلال كل ذلك ينجز جلسات علاج نفسي مع ممرضة بشرية لتخليصه من قلقه ومن كل عقده النفسية.وعلى مستوى الإعلام الإخباري التلفزيوني نجد نمطاً آخر أكثر خطورة في صناعة وأنسنة مفهوم الشر، ربما لأنه يحاول أن يبدو مختلفاً عن طريق زعم الدفاع عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية، إنه مثال يظهر كيف يمكن أن يغدو الإعلام أداة قبيحة أحياناً، وكيف تظهر تناقضات الغاية الشريفة والوسيلة الرديئة بصورة منسجمة.هل هو أمر شرير أن ندافع عن قيم غير شريرة بأسلوب شرير؟ ذلك ما تطرحه إشكاليات ظهرت في الإعلام الفضائي (وما تزال تظهر من حين لآخر)، عند تغطية الحروب والصراعات. إذ يظهر الطرف الأقوى إعلامياً ممسكاً بقوة بقدرته على صناعة صورة الآخر، وإظهاره كتلة من الشر، حتى ولو اقتضى الأمر خرقاً بيناً لكل الاتفاقيات الدولية التي تصون كرامة الإنسان حتى في أتون الحرب واشتعال الصراع.ولعل ذلك هو ما حدا بالفيلسوفين الشهيرين جاك دريدا ويورجن هابرماس في حوارهما مع الفيلسوفة الأمريكية جيوفانا بوردواي، إلى اعتبار أن ثمة علاقة بين تطور وانتشار الإرهاب، وبين تلاشي قيم الحداثة وعصر التنوير، وتجاوزهما.فقد بين دريدا وهابرماس في كتاب جيوفانا المعنون ب«الفلسفة في زمن الرعب» أنه فيما يسمى ب«الحرب ضد الإرهاب»، ليس هناك فرق بين خطوة شرعية وأخرى غير شرعية، إذ لا يشبه التصرف فيها ما نفعله عادة في لعبة الشطرنج.وبيّن الفيلسوفان الأخطار الكبيرة الناجمة عن المنهج البراغماتي الذي يتحاشى عن قصد مواجهة التعقيد المفاهيمي لفكرة الإرهاب نفسها.هذا المنهج البراغماتي هو الذي يؤدي إلى إنتاج ذلك الشر الذي يظهر وكأنه يبرر وجوده بزهو في إطار معركته المعلنة لترسيخ ما يراه خيراً، إنه شر يغض الطرف عن بعضه ليراه فقط في صورة مختلفة، وبمحددات سياسية وجغرافية خاصة، كما يحدث في نظرة أغلبية الإعلام الغربي للجرائم الصهيونية بحق العرب.وفي هذا الإطار لا يستنكف دريدا عن الحديث عن إرهاب الدولة الذي يمارسه الكيان الصهيوني المحتل ضد الفلسطينين، في حين يتجاهل هابرماس ذلك ويكتفي بتعميم الحديث عن الانحرافات الأخلاقية في العالم ككل.نحن إذاً أمام محاولة مؤصلة ثقافياً «وهذا هو الأخطر» لصنع صورة للشر تبدو إنسانية أو مؤنسنة له، وتستعمل غالباً حسب الطلب ونوعية المعركة التي يخوضها من يملك أدوات الصناعة تلك.هل نحن الآن وبعد هذا كله مجبرون على أن نتماهى ثقافياً مع الأشكال الجديدة المنتجة لمعاني الشر والأشرار؟، أم أن علينا النضال بشكل ثقافي واعٍ ضد هيمنة تلك الصور التي يخلقها الإرهابي من بيننا، أو الآخر المختلف عنا؟.في الأمر سعة لنضال طويل يثبت في النهاية معنى الإنسان البسيط الحقيقي القادم من بدء الخليقة والمستعد دوماً لممارسة حقه في تثبيت الخير على هذه الأرض.

مشاركة :