لا شك في أن القارئ الذي يستبد به بين الحين والآخر مقدار كبير من الغضب أمام استشراء الفساد والنهب العام في بلاده، يجد نفسه منساقاً للعودة دائماً وبشكل تلقائي، إلى واحدة من المسرحيات العالمية التي كانت، حين ظهرت، شديدة القسوة والذكاء في طرحها هذا الموضوع الاجتماعي/ السياسي الشائك، ونعني بها مسرحية «المفتش» للكاتب الروسي نيقولاي غوغول، التي كانت من السخرية وحسّ الانتقاد إلى درجة يُروى معها في تاريخ الحياة الثقافية والفنية الروسية في القرن التاسع عشر، أنه حين انتهى تقديم العرض الأول للمسرحية في سانت بطرسبرغ ذات مساء من خريف العام 1836، كان في مقدمة الحضور الذين صفقوا للمسرحية طويلاً، القيصر نفسه، الذي ما إن وقف بعد انتهاء التصفيق، حتى التفت ضاحكاً إلى من حوله وقال: «أيها السادة، لقد كان لكل واحد منا نصيبه في هذه المسرحية... بل يمكنني أن أقول إن نصيبي أنا كان أكبر من أنصبة الآخرين...». وكان من الواضح أن القيصر، يعني بذلك نصيبا من الانتقاد والإدانة، غير أن ذلك كله لم يترك أي أثر سلبي عليه، بل إنه حيّا المسرحية وكاتبها ومقدّميها، ما كان له منذ صباح اليوم التالي ردّ فعل هائل في البلد، إذ إضافة إلى أن المتفرجين تدفقوا لمشاهدة هذا العمل الذي ينتقد السلطة وبيرقراطيتها ومع هذا ينال إعجاب رأس البلاد، أسفر الأمر عن مزيد من الجرأة في انتقاد الممارسات البيرقراطية في الشارع العام، ما خلق نوعاً من السجال العام الجدي، ناهيك بأنه خلق نوعا من الاحترام للقيصر وليبراليته، هو الذي بذكاء موقفه وسرعة استيعابه، أثبت أنه حامي الشعب، في ذلك اليوم على الأقل، ما عاد بالخير عليه وعلى الشعب. ومع هذا، من المعروف أن روسيا كانت في ذلك الحين ترزح تحديداً تحت هيمنة ديكتاتورية البيروقراطية والفساد وتضج أيامها بشتى ضروب القمع والاضطهاد. ومن هنا، سيظل التاريخ يذكر كيف أن عملاً فنياً ذكياً وحاسماً تمكن من أن يتصدى لذلك كله. > وموضوع مسرحية «المفتش» كان هذه البيروقراطية وهذا الفساد تحديداً. وهي كانت ثالث مسرحية يكتبها غوغول، الذي كان في ذلك الحين شاباً ومرتبطاً بالشاعر الكبير بوشكين. ويقال، على أي حال، إن بوشكين كان هو الذي اقترح على صديقه الشاب موضوع هذه المسرحية التي ما إن عُرضت وحققت من النجاح وردّ فعل القيصر ما حقّقت، حتى أعادت إلى الحياة الاجتماعية الروسية، تقاليد المسرح الاجتماعي الانتقادي كما كان أسسه موليير قبل ذلك. > ومن المعروف اليوم أن مسرحية «المفتش» هي الأكثر حضوراً على خشبات العالم، من بين الأعمال المسرحية التي كتبها غوغول كافة. ولربما يصح أن يقال فيها إن جزءاً كبيراً من مسرح الانتقاد الاجتماعي قد خرج من عباءتها، تماماً كما يقال عادة إن الرواية الروسية الحديثة قد خرجت من «معطف» غوغول. > في أيامنا هذه، قد يبدو موضوع «المفتش» عادياً ولا يثير الكثير من الاهتمام، إلا على صعيد الانتقاد المحلي للسلطة وفساد أهلها. لكنها في أيامها كانت تشكل ثورة حقيقية، في الأذهان كما في الممارسات الاجتماعية. أما موضوع المسرحية، فيدور حول بلدة صغيرة في الريف الروسي يتلقى عمدتها ذات يوم أنباء سرية تفيد بأن ثمة مفتشاً عاماً يسافر - متنكراً نكرة - من سانت بطرسبرغ بهدف القيام بحملة مداهمة وتفتيش إدارية في البلدة نفسها. ومن المعروف أنه في مثل تلك البلدات الروسية في ذلك الحين كانت زيارة مفتش عام من ذلك الطراز، تعتبر أسوأ ما يمكن أن يحدث للحياة الاجتماعية، طالما أن إدارة البلدات والمدن، كانت فاسدة من أسفل السلم الوظيفي إلى أعلاه، وأن الفساد كان مستشرياً من دون أن يفكر الفاسدون حتى في إمكان أن يطل عليهم حقاً ذات يوم مفتش يتحرى أمورهم ويفضحها. وهكذا يشعر العمدة وأعوانه وبقية الموظفين بأن ثمة مصيبة آتية، ولا بد - طالما تسللت اليهم الأنباء التي كان يجب أن تتسلل - من التحرك سريعاً، تحسباً للأمر. وهكذا تسري الحركة، وتُخبّأ الملفات، وتختفي الوثائق، وتضبط العلاقات الاجتماعية، انتظاراً لوصول المفتش الذي هو - بالنسبة إلى بيروقراطية البلدة - أهم شخص وفي يده شقاؤهم وسعادتهم، طالما أن له من الصلاحيات ما يجعل آراءه قاطعة وأحكامه مبرمة. > وهكذا تسوي البلدة كل شيء وتتحسب لكل ما هو متوقع أو غير متوقع. ولكن الذي يحدث في الحقيقة هو ما لم يكن في إمكان أحد من أهل البلدة أن يحسب أنه يمكن أن يحدث: يصدف أن يصل إلى البلدة، في شكل مبكر بعض الشيء عن الموعد المحدد - تخميناً - لوصول المفتش، موظف حكومي شاب غامض، يستأجر غرفة في النزل المحلي. هذا الشاب يدعى خليستاكوف، وهو في حقيقته شاب أرعن أنفق أمواله على القمار والنساء والثياب الفاخرة، ويريد هنا أن يختبئ لبعض الوقت ريثما تمضي الأزمة التي نتجت له من ذلك كله. غير أن أهل البلدة، لتوجسهم وخوفهم، يحسبون الشاب المفتش المنتظر، ويحسبون كل احتياطاته وتردده في خانة إمعانه في التنكر والخداع. وهكذا يسرعون إليه متقربين، واضعين في تصرفه إمكاناتهم وأملاكهم ونساءهم، وهم يحسبون أنهم بذلك يكسبون ودّه ويجتنبون شره. وسرعان ما يدرك الشاب حقيقة سوء التفاهم الذي وقع أهل البلدة ضحية له، ويجد في الأمر فرصة ذهبية لتحقيق مكاسب وامتيازات ما كانت لتخطر له في بال. وهكذا نجده يقبل الدعوة للانتقال إلى بيت العمدة، ويقبل كل الهبات والرشاوى التي تقدم إليه. ويمضي أكثر من ذلك في الاستفادة من هذه الوضعية، ويبدأ بمغازلة زوجة العمدة اللعوب، في الوقت الذي يتقدم إلى خطبة ابنة العمدة الحسناء. ولعل «أجمل» ما في هذا كله هو أن خليستاكوف بعد قبوله هبات الرسميين أبناء السلطة من الذين يخيل اليهم أنهم برشوتهم إياه يكسبون وده ويجتنبون غضبه، يقبل في الوقت ذاته، الرشاوى التي يقدمها إليه تجار البلدة وأعيانها، من الذين يأتون إليه أصلاً شاكين باكين من معاملة الرسميين إياهم وإجبارهم على رشوتهم. وإذ تمضي الأيام القليلة، يجد الشاب نفسه وقد جمع ثروة لا بأس بها، وحقق أموراً لم تكن متوقعة. وهنا، إذ يخشى مغبة انكشاف أمره، وبعد أن يحدد الغد موعداً لعرسه مع ابنة العمدة، نراه يستأجر أفضل عربة في البلدة، ويسافر بها «لبعض شؤونه» كما يخبر مودّعيه، واعداً بأن يحضر في اليوم التالي لكي يطلب يد عروسه رسمياً ويتزوجها. وبعد غيابه يحدث لرجل البريد في البلدة أن يفتح رسالة كان خليستاكوف كتبها، واصفاً فيها بالتفصيل مغامرته تلك في «البلدة الساذجة الفاسدة السخيفة». وبعد ذلك، إذ يجتمع أهل البلدة وأعيانها في لقاء ما قبل العرس، يقوم رجل البريد بفضح ما في الرسالة، وبالتالي حقيقة الشاب المحتال. وهنا يصاب الحاضرون بالذهول، ويبدأون بتراشق الاتهامات والشتائم في ما بينهم. وفي ما هم وسط ذلك كله، يدخل دركي ليعلن أمام الجميع وصول المفتش الحقيقي طالباً من الحاضرين المثول في حضرته. وهنا، كما لاحقاً في الأفلام السينمائية الفنية، جعل غوغول كل الشخصيات الحاضرة تجمد جموداً تاماً، كما في لقطة ثابتة، من دون أية كلمة ومن دون أي حراك، فيما تهبط الستارة. > حين كتب نيقولاي غوغول هذه المسرحية الساخرة كان بعد في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن ارتقى سلم المجد بعد. وهو ارتقى هذا السلم حقاً بفضل «المفتش» على أي حال، إذ من بعدها صارت مسرحياته تقدم في شكل شبه منتظم طوال السنوات العشر التالية. غير أن الكتابة المسرحية لم تكن همّ غوغول وشاغله الوحيد. فهو إضافة إليها كتب الشعر والقصة والرواية، وأسس الكثير من صنوف الأدب، بما فيها الأدب الخيالي والاجتماعي والواقعي، الدرامي والساخر. ومن المعروف أن أعمالا له مثل «المعطف» و «الأرواح الميتة» و «الأنف» و «يوميات مجنون»، كانت ولا تزال تعتبر من روائع الأدب العالمي، وكذلك تعتبر روايته «تراس بولبا» مجلّية في عالمها. ومع هذا كله لم يعش غوغول سوى ثلاثة وأربعين عاماً، مات عند نهايتها في العام 1852 في موسكو بعد فترة طويلة من الألم والمعاناة. alariss@alhayat.com
مشاركة :