من المفارقات الغريبة التي تشهدها الكثير من مجتمعاتنا تحوّل الأصل إلى استثناء في كثير من المجالات، خاصة ما يتعلق منها بأخلاق وأنماط سلوكية طبيعية وعادية ومفترضة في حياة الناس وممارساتهم لمسؤولياتهم وأدوارهم وأعمالهم، بحيث أننا صرنا في أحيان كثيرة نكيل المدح والإطراء كلما صادفنا الصدق والتواضع والنزاهة والأمانة وما شابهها من صفات لا تستأهل كل هذا الإعجاب والإشادة لولا أنها باتت شبه عملة نادرة وقيم في طريقها للانقراض، واستوجب - تبعاً لذلك - عند رؤيتها والحصول عليها أن يسيل الكلام والأحبار في مدحها والثناء عليها باعتبار أن عكسها صار هو المتعارف عليه والسائد في حياتنا، للأسف الشديد. هي ظاهرة غير منطقية وغريبة ومنتشرة على نطاق ليس بالقليل، أن يكون الأصل هو الاستثناء، وقد لا يشعر الكثيرون بهذه الظاهرة، لا لشيء سوى أننا ألِفْنا هذا المشهد في كثير من ممارساتنا وصور حياتنا المختلفة، ومن ذلك تبوؤ المناصب؛ حيث إنه بالرغم من كثرة الكلام عن أن هذه المناصب ليست تشريفاً وإنما هي مسؤولية وتكليف تدفع صاحبها نحو المزيد من الحرص وبذل الوقت والجهد للرقي بمؤسسته أو النهوض بأعمال وخدمات مؤسسته أو وزارته وتطويرها، فإن واقع الحال هناك من لا يرى في منصبه سوى أنه مغنم للمال والتكسّب، ومحطة للشهرة والأضواء، ومحل للبذخ والترف، ومركز للغرور والتكبّر، وطريق لاعتزال الناس والتعالي على الآخرين. بين يدي مثال، بالتأكيد ليس حصرياً، أخبرني به أحد الطلبة قبل بضع سنوات أنه لم يعرف رئيس جامعته - ليست في بلداننا - إلا في حفل تخرّجه! ويقول إنه اكتشف أن هذا الرئيس قد سبق له أن درس له إحدى المواد، وأنه كان يراه أستاذاً عادياً ضمن الفريق الأكاديمي للجامعة لا فرق بينه وبينهم، يدّرس ويناقش ويشرف على رسائل دكتوراه، وينشر بحوثاً علمية في المجلات المحكمة، ويشارك في المحاضرات والفعاليات المختلفة، ويتواجد في ساحات الجامعة ويتنقل بين مرافقها وما شابه ذلك من مناشط ومناسبات تقيمها الجامعة ويشارك فيها طلبة وأساتذة.. إلخ. ولم يخطر على باله أن هذا الذي رآه يسلّمه شهادته في حفل التخرج هو ذاته رئيس الجامعة! ولعلّ سبب استغرابه هو أن الصورة النمطية التي تكوّنت في وعيه وثقافته عن رئيس الجامعة أو أي رئيس أو وزير في كثير من بلداننا تختلف عمّا رآه هناك. فرؤساء الجامعات ومن في مستواهم - أصغر أم أكبر - عندنا تكون لهم مكاتب أشبه بالأجنحة الفاخرة، ولهم حراسات و(أسطول) من الخدم والسواقين والسكرتارية، وسيارات فارهة، ينسون تخصصهم ويتركون بحوثهم ويتخلّون عن (أكاديميتهم)، رؤيتهم بحسب مواعيد، وإذا طلع خرج بموكب من الحرس والمراسم، أخبارهم وصورهم تملأ المكان، الحسابات الرسمية (الإنستغرام وتويتر.. إلخ) حصراً لهم، المؤسسة في خدمتهم وأهلهم وأصدقائهم. يُقال إن أحدهم - رئيس جامعة - قبل أن يحضر ندوة تحت رعايته؛ أطفأوا الأنوار لتتوجه الأنظار إلى قدومه من الباب الذي سيُفتح لدخوله مع تركيز هالة من الضوء عليه أثناء سيره لمنصته، وربما حدّثته نفسه في الأثناء بمن ينشد له (طلع البدْر علينا). المقارنة بين الحالتين صعبة ومتعبة، ولكم أن تتخيلوا حجم الإنجاز الذي يتحقق في مثل تلك المؤسسات التي تديرها نوعيات تنسى المضمون وتركز على الشكل و(الفخفخة) وتركض وراء الأضواء وتتسوّل (البهرجة) ولا يكون لها بعد رحيلها من بصمة في منصبها سوى تلك النفقات التي أهدرها على ترفيه نفسه وضيعها في تلميع شخصيته ووجّهها لتحقيق مصلحته. سانحة: ولذلك لم يعد مستغرباً أن تكون المواقع والمراتب المتأخرة محجوزة لنا، بالطبع في التصانيف والمؤشرات العلمية المعتمدة، وليس في "دكاكين" جوائز البيع والشراء. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :