يقول بدر صفوق في قصيدة أخرى موجهاً الكلام إلى صديقه الشاعر الكويتي عيد الدويخ وهو شاعر يكتب القصيدة العربية الفصيحة:أنا.. يا عيدما كنت أكتب للشعربحسانٍ وغيدولأجل هذا كثير ما أطارد من كلاب الصيد... أنا يا عيدأول دمعة الساكتوآخر زفرة التنهيدلعل ما كتبه عن «أمير الإنسانية» على حد تعبيره أو ما كتبه عن الورق تتضح صورته في هذا الكلام الموجه لصاحبه عيد الدويخ من أن الشعر تعبير عن المعاناة الإنسانية، تعبير عن روح الإنسان، ذلك الإنسان الذي يشكل المادة الخام في هذه الإشكاليات المتداخلة، ذلك الإنسان الذي يشترك مع الإنسان كحالة مطلقة من خلال النـزوات والرغبات ولحظات الخوف والتحدي والإحساس بالطمع والجشع في بعض الأحيان، أو الإحساس بمجرد الإحساس الخارج عن محدودية الممكن أو المستحيل في أدق تفاصيله... أنا يا عيدأول دمعة الساكتوآخر زفرة التنهيدهذا الفهم يتوافق مع فهم العديد من الشعراء حول طبيعة الشعر، من كونه محركاً للتعبير عن الحزن والإحساس بالمأساة الإنسانية، وفي هذا التوظيف للشعر تهميش بطريقة غير معلنة أو غير مباشرة لأي محاولة لتفريغه من هذا الهم، والعمل على صبه في قوالب لا تتناسب مع هذا الفهم، وهذا ما نلاحظه في العديد من النماذج المطروحة للتناول في هذا الموضوع، وهو اعتبار الشعر نزفاً آخر، نزفاً من الوعي لا يعرف التوقف، وهو ما عبر عنه إبراهيم السمحان:أشتهي حرفما ينحني للظرفوبين السهام يمرولا يخاف النـزفوقد عبر عنه كذلك بطريقة أكثر وضوحاً حينما قال:أشتهي صوتفي هاجسي منحوتكنَّه يلوِّح ليمع كل نبرة صوتفهذه الرغبة في التدفق المتواصل من العطاء عبر عنها إبراهيم السمحان من خلال تكراره لمفردة «أشتهي» في كلا المقطعين وهو تمني أن يتواصل مع العطاء الشعري ويستمر، وهذه الحالة تكاد أن تكون أوضح مع مهدي بن سعيد، حيث جاءت مع هذه الحالة لا من قبيل التمني، بل من قبيل طرح تساؤل استفزازي يحرض على التفكير بهذه الحالة:من يشتري ؟!من يشتري دفتر شعر؟!ويبيعني ليلة سلام...أبغى أنامأبغى أنتصر ليلة على حرب الكلامأبغى أنتصرمن يشتري وحي الأرق!لم يعد الشعر كما كان في الماضي، لقد تحول الشعر من مجرد كلام يقال إلى هم إنساني لا بد من التعايش معه واحترامه، وتأمل أبعاده بعد ذلك، وهذا ما سعى مهدي بن سعيد إلى الإيمان به، فالشعر عنده تحول إلى سهاد وسهر وصداع لا يُمَكّنهُ من الراحة لا عملاً مخمليّاً، هنا تحولت القصيدة عنده إلى ساحة حرب حرمته النوم والعيش بسلام، وهو ما عبر عنه بقوله: «حرب الكلام» هذه الحرب التي جلبت له القلق وعدم الشعور بالطمأنينة.من يقرأ قصيدة «تاريخ الطين» للشاعر فهد المرسل يكتشف أنه أمام رسالة غفران صيغت بطريقة شعبية، وكتبت مقاطعها بلغة شعرية شعبية, لقد تعامل فيها الشاعر مع إشكالية موقف الإنسان من الزمن، غير أنه لم يذهب بها إلى المستقبل كما فعل أبو العلاء المعري، بل قام باستحضار الماضي أمام أعيننا، وهو في هذا العمل لم يكن مؤرخًا، بل كان شاعراً إنسانيًّا، حاول أن يتجاوز الفوارق الفردية بين البشر، ويصل إلى الإنسان الأول الموجود في كيان كل واحد منا، حيث مال الشاعر في هذا التاريخ البشري الذي تناولته كاميراته الشعرية، ولمسنا من خلاله ميله مع لحظات الضعف الآدمية التي تنتابه في مراحل حياته، سواء من خلال التطرق إلى موقف ابن نوح أو موقف الحجاج الذي شارف على الموت، وذلك أنه كان ينشد الحقيقة الأزلية التي ظل الشعراء يبحثون عنها من زواياهم المختلفة وهو ما عبر عنه المرسل بقوله: «شاعر يجلس على كرسي خشب وعمره ما كتب غير الحقيقة» وهي الحقيقة الشعرية التي يسأل عنها الشعراء، الحقيقة التي لا تعترف بالمنطق ولا تؤمن بأي قانون من قوانين الرياضيات أو الفيزياء، إلا الرؤى التي تنبثق من روح الشاعر دون حسيب أو رقيب إلا من وعيه أو ما يمليه عليه ضميرهالشعرنادي التايهين.. أكذوبة الأعراف،وعد النردفسحة للفراغ الفردفالشاعر الباحث عن الحقيقة لا بد أن يبقى تائهاً وغير مؤمن بالتقاليد، لأن هاتين الخاصيتين -كما أوضحهما الشاعر هنا- أهم محركات هذا البحث، وقد عبر عن هذا التوجه في مكان آخر من نصوصه الشعرية لكن بطريقة مختلفة، غير أنها مرتبطة بهذا التصور «الشعر منفى.. لا حدود.. لا قيود ولا جدار» أي إنه رحلة لا تعرف التوقف، اختصرها بكلمة واحدة «منفى» وهذا المنفى عالم ليس له حدود ولا جدار ولا يخضع للقيود، لهذا يردد: «لأجل أدق أجراس هذا الكون بأكتب لك قصيدة» حيث إن القصيدة هي المفتاح الذي سيفتح له الحجب المغلقة أمامه ويمكنه من كسر هذه الأبواب التي تمنعه من الدخول إلى العالم بسلام:لعل فهد عافت حينما قال ذات مرة:الشتا تلويحة المنفى إلى الأرض البعيدةوالمسا نادلكان يستحضر في هذا الكلام روح الإنسان الشاعر الذي يعاني من موت الأحاسيس وتشتت المشاعر، وذلك من خلال استحضاره للشتاء والمنفى والأرض البعيدة وقوله كذلك: «والمسا نادل» باعتبار أن هذه العوامل في حال تداخلها وتشابكها بطريقة معقدة ومتداخلة تمنحه القدرة على قول كل ما يريد وما لا يريد من شعر، لأن الشعر كلما خرج من رحم المأساة كان أعمق وأكثر مصداقية وأقوى في التأثير.
مشاركة :