النظرة المتعالية لحمولة السرد هي التي جعلت من نصوصه صعبة ومثيرة، فقراءة كتاباته تشبه قراءة خارطة من الكلمات المتقاطعة، إذ تتطلب وعيا مُستَفزّا بخفايا الذاكرة التاريخية والثقافية، وذخيرة فاعلة في المصطلحات والمفاهيم والمعلومات والطقوس وسرائر السياسة والأديان، وقدرة على ربط الأشياء والأفكار والشفرات بعضها بالبعض الآخر، فهو يضع كل تلك الأشياء التي يكتبها داخل متاهة، وفي مسارات تنشط فيها التقاطعات والصراعات السرية، وتتسع معها فكرة التأويل، لكنه بالمقابل يُخضعها إلى موجهاته المنهجية، ووظائفية مُعجمه الحاشد بالعلامات. هذا التموضع يعني التحفيز على القراءة، القراءة التي تختلط فيها اللذة بالتحدي، والمغامرة بالمعرفة، مثلما يعني له البحث عن أشياء خبيئة في الأنساق المضمرة للنصوص والعلامات والآثار الفنية والفكرية، أو في الوثائق التي يتقصّى من خلالها أسرار الصراعات والجرائم السرية، والنزاعات الفلسفية والدينية، تلك التي عمد إلى إثارتها في كتابته عن مفهوم “البنية الغائبة”، والتي عدّها الكثيرون تأسيسا أوليّا لمشروعه الكبير، وتقعيدا نظريا لمنظوره السيميائي، والذي ارتبط به بشكل واضح منذ بدء حياته المعرفية، إذ تعلق بجماليات العصور الوسطى التي تجلت فيها الكثير من شفرات العوالم السرية في الكنائس، والصراعات التي انخرطت فيها جماعات دينية وثقافية وسياسية، وهو ما انعكس على طبيعة مشغله السيميائي والهرمونيطيقي، وعلى رواياته، من خلال اختيار أنماط سردياتها وترسيم ملامح شخصياتها.خفايا الأسرار وشفراتها من خلال سردنة العلامات إشكاليات وجودية قد يكون مفهوم “البنية الغائبة” كما ترجمه سعيد بن كراد جوهرا في اشتغالات العقل العربي، بحكم هيمنة سطوة الغائب في الشعور الجمعي، وبخصوصية علاقته مع ميثيولوجيا الخلاص التي تشتغل عليها الكثير من الجماعات الدينية، وهذا ما يُعطي لسيميائيات إيكو حضورا مميزا في النظر إلى العلامة والتأويل والنص والخطيئة بوصفها محفزا للكشف عن الكثير من اللانهائي في الأفكار. دأب إيكو على ملاحقة تلك الأفكار، من خلال ما تثيره من صراعات، وإشكاليات وجودية، ومن خلال ما تُحفّزه على الانشداد إلى محفزات القراءة العميقة، وعلى ما تستدعيه من أسئلة ملتبسة، وعلى ما تفترضه من علامات لها قابلية التَمثّل اللساني والتصوري، تبعث على تأويل فائق للوجود والتاريخ والقيم والرسائل الدينية، فهي محشوة بالكثير من المقاربات السيميائية، أو قريبة مما سُمّي بـ”السميوز” أي السيرورة المنتجة للدلالات وتداولها كما سماها سعيد بن كراد، تلك التي تطورت مع جماليات التلقي، والتي أرهص إيكو بأطروحاته لفهمها أولا، ولتجلية ما يمكن أن يتبدى من جماليات مضادة تفترضها العلاقة غير المحددة ما بين النص والقارئ، خاصة من خلال كتابه “الأثر المفتوح”، حيث كرّس فيه منهجه النظري والإجرائي لدراسة النص وتمثّلاته، ولتنشيط مسار الفعل التأويلي الذي قد تثيره القراءة، إذ يقول إيكو في الكتاب “كل أثر فني حتى وإن كان مكتملا ومغلقا من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقة، هو أثر “مفتوح” على الأقل من خلال كونه يؤول بطرق مختلفة، دون أن تتأثر خصوصيته التي لا يمكن أن تختزل، ويرجع التمتع بالأثر الفني إلى كوننا نعطيه تأويلا ونمنحه تنفيذا ونعيد إحياءه في إطار أصيل”. أغنى إيكو المكتبة العربية بكتابات شكلت مفارقة كبيرة في مسارات تلقي المعرفة، وفي التعاطي مع أسئلتها، فمن خلال روايات “بندول فوكو”، و”باودولينو”، و”اعترافات روائي شاب”، و”مقبرة في براغ”، و”العدد صفر”، وضعنا إيكو أمام القراءة المفارِقة، القراءة التي تُحيل إلى المعرفة، وإلى ما يحيط العالم من رهاب تساكنه الأقنعة، واللغة المُدجّجة بالغموض. تظل استعادة إيكو الروائي والسيميائي محاولة في البحث عن اللاسياق في المعرفة، حيث تُمارس الأفكار وظائف غير آمنة لمواجهة الغامض والمجهول واللامُفكر به.
مشاركة :